قوس الفوضى: كيف تحولت إفريقيا إلى ساحة الحرب العالمية الجديدة

د. عبدالناصر سلم حامد
في الفاشر، صار الخبز يُشترى بالولاء لا بالمال، والجوع أقوى من أي سلاح. أحد النازحين قال لي عبر الهاتف: «نحن لا نعدّ الأيام… بل نعدّ من بقي حيًّا بعد كل ليلة حصار». وأذكر أن أحد معارفي هناك أخبرني بحسرة: «لم نعد نحلم بالنصر أو الهزيمة، بل نحلم فقط بليلة نوم بلا أصوات رصاص». أم باعت خاتم زواجها لتشتري كيس دقيق، لكنها عادت لتجد طفلها قد مات أمام مستشفى بلا دواء.
وفي الخرطوم، استعاد الجيش السوداني العاصمة بعد شهور من القتال ضد قوات الدعم السريع ومرتزقة عابرين للحدود، لكنه عاد إلى مدينة نصفها أنقاض ونصفها نزوح. وقد تجولت في بعض أحيائها بعد أن استعادت الدولة السيطرة، فشعرت أن الخرطوم مدينة نصفها حيّ ونصفها تحت الرماد. بين مشهد الفاشر المحاصرة والخرطوم المستعادة، يتجلى السودان كوجه من وجوه قوس الفوضى: شريط يمتد من الأطلسي غربًا عبر مالي والنيجر وتشاد وصولًا إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
هذا القوس لم يعد توصيفًا جغرافيًا. إنه مسرح مفتوح تتقاطع فيه النزاعات المحلية مع مصالح القوى الكبرى. هنا تُختبر أدوات الحرب الجديدة: الطائرات المسيّرة التي نزعت احتكار السماء من الجيوش، المرتزقة الذين صاروا جيوش ظل، الموارد التي تموّل النزاعات بدل أن تبني التنمية، والممرات البحرية التي تحولت إلى قطع شطرنج في لعبة النفوذ الدولي. وكما جاء في تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (2024): «إفريقيا لم تعد ساحة نزاعات محلية فقط، بل مختبرًا عالميًا تُصاغ فيه قواعد الحرب المقبلة».
في المدن، تتجسد المأساة اليومية. الخرطوم استعادت أنفاسها تحت سلطة الدولة، لكن أسواقها الفارغة ومبانيها المحروقة تكشف هشاشة العواصم أمام حرب الشوارع. الفاشر تقدم صورة أكثر قتامة: مدينة محاصرة منذ شهور، الغذاء والدواء مقطوعان، والقنص مستمر. أحد سكانها قال: «نحن نعيش سراييفو جديدة… لكن الفرق أن العالم لم يأتِ لإنقاذنا». المقارنة مع سراييفو ليست مبالغة: فالحصار هناك استمر 44 شهرًا وأودى بحياة أكثر من عشرة آلاف شخص، بينما يتكرر السيناريو في الفاشر بلا تدخل دولي. الفرق الأوضح أن سراييفو كانت في قلب أوروبا، قرب كاميرات الإعلام الغربي، بينما الفاشر في قلب إفريقيا البعيدة عن الأضواء.
في واغادوغو ونيامي، لا تحتاج الجماعات المسلحة إلى السيطرة على العاصمة. يكفي تفجير في سوق أو كمين على طريق رئيسي ليزرع الشك في قدرة الدولة على الحماية. أما مقديشو، فكل شارع فيها قد يتحول إلى جبهة لأن مقاتلي حركة الشباب يذوبون وسط المدنيين. وفي الصحراء الكبرى تتحرك الجماعات المسلحة بخفة عبر سيارات الدفع الرباعي والدراجات النارية، مستندة إلى شبكات قبلية تعرف مسالك الرمال. كنت في باماكو قبل سنوات، ولاحظت أن الحديث عن الأمن هناك يبدأ دائمًا من سؤال بسيط: هل ستصل القافلة بسلام أم ستختفي في الرمال؟ جندي مالي لخّص الأمر بقوله: «نقاتل في الصحراء كمن يقاتل الأشباح، لا نراهم إلا حين يضربون ثم يختفون». المشهد يذكّر بأفغانستان، حيث استمرت حرب العصابات عقودًا بلا نصر حاسم.
وعلى السواحل يظهر البعد الدولي للقوس. السودان يعتمد على بورتسودان كمنفذه البحري الأخير، رئة الدولة ومصدر قوتها. في جيبوتي، تتجاور قواعد أمريكية وصينية وفرنسية ويابانية وخليجية في شريط ساحلي ضيق. أحد الدبلوماسيين وصفها بأنها “هونغ كونغ العسكري للقوى الكبرى”. أما خليج غينيا، فظل عرضة للقرصنة البحرية، تراجعت الهجمات قليلًا عام 2022 لكنها عادت لتتصاعد في 2023. وهنا يصبح البحر الأحمر بالنسبة لإفريقيا كما هو بحر الصين الجنوبي بالنسبة لآسيا: ممر ملاحي دولي حيوي جرى تحويله إلى ساحة عسكرة. الفارق أن بحر الصين يحظى برقابة مستمرة من واشنطن وطوكيو، بينما البحر الأحمر تُرك ساحة مفتوحة للتنافس دون ضوابط واضحة.
في السماء انقلبت الموازين مع دخول الطائرات المسيّرة كسلاح الحرب الجديدة. فبحسب صور أقمار صناعية نشرتها وكالة رويترز مطلع 2025، تدير قوات الدعم السريع طائرات صينية من طراز “سي.إتش-95” (CH-95) انطلاقًا من قاعدة في نيالا بدارفور، قادرة على الاستطلاع والهجوم ضمن مدى يتجاوز مئتي كيلومتر. كما وثّقت منظمة العفو الدولية استخدام الدعم السريع لذخائر دقيقة صينية الصنع من طراز “نورينكو جي.بي-50” (Norinco GB-50A) في هجمات استهدفت مواقع عسكرية وأحياء مدنية، وهو ما يمثل خرقًا مباشرًا لحظر السلاح المفروض على السودان. وإلى جانب هذه الأنظمة، يعتمد الدعم السريع على طائرات تجارية صغيرة من صنع شركة صينية مثل “دي.جي.آي مافيك” و”ماتريس”، يجري تعديلها محليًا لتؤدي مهام الاستطلاع وإلقاء متفجرات يدوية على أهداف قريبة. وبحسب تقرير لموقع ميلتاري أفريكا (2025)، استخدمت هذه الطائرات في ضرب مطارات وخطوط إمداد، ما يعكس توسع خبرة الدعم السريع في الحرب الجوية.
لكن الحرب لا تدور في السماء وحدها. في نيجيريا، أصابت هجمات سيبرانية أنظمة البنوك. في كينيا وإثيوبيا، تعرضت شبكات الاتصالات لضربات إلكترونية. وفي السودان، تُدار معركة أخرى على وسائل التواصل: آلاف الحسابات المجهولة تبث الشائعات وتؤثر على الروح المعنوية للمدنيين والمقاتلين. الحرب هنا لم تعد بندقية ورصاصة فقط، بل أيضًا كودًا برمجيًا وخطابًا إعلاميًا.
الموارد بدورها هي المحرك الخفي لهذه الحروب. يُنتج السودان ما بين 80 و100 طن من الذهب سنويًا وفق تقديرات متباينة، نصفها يُهرّب عبر شبكات إقليمية. وقد أدهشني كيف تحولت ثروات مثل الذهب واليورانيوم من وعدٍ بالتنمية إلى لعنة تفتح أبواب الحرب. النيجر تُصدّر نحو ألفي طن من اليورانيوم، شريانًا لمفاعلات أوروبا النووية. الكونغو الديمقراطية تنتج قرابة 76% من الكوبالت العالمي، معدن المستقبل لصناعة البطاريات والسيارات الكهربائية. نيجيريا تضخ أكثر من مليون ونصف المليون برميل نفط يوميًا. وزيمبابوي تدخل السباق بليثيومها. وقد خلص تقرير لمجموعة الأزمات الدولية عام 2024 إلى أن «الموارد في إفريقيا لم تعد ثروة اقتصادية فحسب، بل عملة في لعبة الحرب».
المرتزقة يشكلون وجهًا آخر لهذا القوس. ففي السودان، قُتل مقاتلون من تشاد وليبيا إلى جانب قوات الدعم السريع، وأشارت تقارير إلى استقدام كولومبيين عبر شبكات تجنيد إقليمية. وفي مالي وإفريقيا الوسطى، تسيطر مجموعة فاغنر الروسية على مناجم الذهب والماس. أما في ليبيا، فقد جرى استقدام مقاتلين من سوريا وتشاد للانخراط في خطوط المواجهة. صحفي سوداني قال لي: «حين تسمع لغات أجنبية في شوارع الفاشر، تدرك أن الحرب لم تعد حربنا وحدنا». الباحث أليكس دي وال كتب: «المرتزقة في إفريقيا لم يعودوا مجرد أداة مؤقتة، بل مؤسسات موازية تعيد تعريف الدولة».
أما القوى الكبرى فحضورها متناقض. الولايات المتحدة ما تزال تحتفظ بقاعدتها العسكرية في جيبوتي حيث يرابط نحو أربعة آلاف جندي، وبقاعدة أخرى في أغاديز بالنيجر كلّفت أكثر من مئة مليون دولار، لكنها تفضل العمل عبر الطائرات المسيّرة والاستخبارات. فرنسا، التي طالما اعتبرت نفسها القوة التقليدية في الساحل، تراجعت بعد انسحابها من مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ولم يتبق لها سوى وجود محدود في تشاد وساحل العاج. بريطانيا وألمانيا أنهتا مشاركتهما في بعثة الأمم المتحدة في مالي. في المقابل، تمددت روسيا عبر فاغنر – التي باتت تُعرف اليوم بـ”فيلق إفريقيا” – وعززت الصين حضورها من خلال قاعدتها في جيبوتي واستثماراتها الضخمة، بينما وسعت تركيا نفوذها عبر قاعدتها في مقديشو وتدريب آلاف الجنود الصوماليين، ومدّت الإمارات أذرعها عبر شبكة موانئها ودعمها العسكري لأطراف متصارعة في السودان. مسؤول في مجموعة الإيكواس قال لي معلقًا: «لقد فقدنا زمام المبادرة، ولم تعد قراراتنا تردع الانقلابات أو توقف الحروب».
الأصوات المحلية تضيف بعدًا آخر للتحليل. طبيب من دارفور قال: “نستقبل الجرحى بلا دواء ولا أجهزة… مجرد ضمادات مستعملة”. معلمة من نيامي روت: “مدرستنا مغلقة منذ شهور، والأطفال صاروا يبيعون في الأسواق بدل أن يتعلموا”. جندي في باماكو اعترف: “نقاتل في الصحراء بلا رواتب، نعيش على ما نصادره من القرى”. لاجئة من الفاشر قالت: “مشيت مع أطفالي ثلاثة أيام بلا ماء، ووجدنا أنفسنا في معسكر مكتظ بالخيام”. هذه الأصوات ليست تفاصيل جانبية، بل تمثل جوهر الفوضى نفسها.
الحياة اليومية في القوس تلخص المشهد بأكمله. في الخرطوم، ارتفع سعر الخبز بنسبة خمسين في المئة. في الفاشر، يموت الأطفال جوعًا كل يوم. في نيامي، تنقطع الكهرباء لأيام بفعل هجمات على خطوط الطاقة. آلاف الشباب ينضمون إلى الميليشيات، لا عن قناعة فكرية، بل لأن الحرب صارت أكثر ربحًا من البطالة أو الزراعة.
لكن الأثر لا يتوقف عند حدود إفريقيا. أوروبا تواجه تداعيات مباشرة: هجرة متزايدة عبر البحر المتوسط، وانكشاف استراتيجي في ملف الطاقة إذا تعطلت إمدادات اليورانيوم من النيجر أو الكوبالت من الكونغو. الولايات المتحدة ترى القوس كجبهة جديدة في صراعها مع الصين وروسيا، حيث تُستخدم الموانئ والقواعد والموارد كأدوات نفوذ. أحد الباحثين في مركز تشاتام هاوس كتب مؤخرًا: «إفريقيا لم تعد قضية إنسانية فقط، بل صارت عنصرًا من عناصر الأمن القومي الغربي».
وكلما تأملت هذه المشاهد من دارفور إلى نيامي، يزداد يقيني أن ما يجري ليس مجرد أزمات متفرقة، بل بروفة كبرى لحرب عالمية قادمة.
الخاتمة لا تحتاج إطالة: قوس الفوضى ليس مستقبل إفريقيا وحدها… بل البروفة الكبرى لحرب العالم القادمة
قائمة المراجع
•Amnesty International. Sudan: Advanced Chinese Weaponry Provided by UAE Identified in Breach of Arms Embargo. May 2025.
•Chatham House. Africa and the Global Security Order. London: Chatham House, 2024.
•Council on Foreign Relations (CFR). Cyber Threats in Africa. Washington, DC: CFR, 2024.
•de Waal, Alex. The Real Politics of the Horn of Africa: Money, War and the Business of Power. Cambridge: Polity Press, 2019.
•Giustozzi, Antonio. Koran, Kalashnikov, and Laptop: The Neo-Taliban Insurgency in Afghanistan. New York: Columbia University Press, 2009.
•International Crisis Group (ICG). Gold and Conflict in Sudan and the Sahel. Brussels: ICG, 2024.
•International Maritime Bureau (IMB). Piracy and Armed Robbery Against Ships: Annual Report 2023. London: IMB, 2023.
•Kaplan, Robert D. Asia’s Cauldron: The South China Sea and the End of a Stable Pacific. New York: Random House, 2021.
•Malcolm, Noel. Bosnia: A Short History. New York: New York University Press, 1994.
•Military Africa. Drones in the Sudanese War. June 2025.
•Reuters. Sudan’s RSF Operating Drones from Darfur Base, Pictures Show. February 2025.
•Sukhankin, Sergey. “Wagner PMC: A Russian Expeditionary Force in Africa?” Jamestown Foundation Report, 2021.
•United States Africa Command (US AFRICOM). Annual Posture Statement on Africa. Washington, DC: US Department of Defense, 2024.
•United States Geological Survey (USGS). Mineral Commodity Summaries 2023: Cobalt. Reston, VA: USGS, 2023.
•World Nuclear Association. World Uranium Mining Production. London: WNA, 2023.
•International Institute for Strategic Studies (IISS). The Military Balance 2024. London: IISS, 2024.
Exit mobile version