تقارير

قوات الدعم السريع والإبادة الجماعية في السودان.. مسؤولية داخلية ودولية

الأحداث – وكالات 

في تحول غير مسبوق على الساحة الحقوقية الدولية، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في يناير 2025 أن قوات الدعم السريع في السودان ارتكبت جريمة إبادة جماعية بحق جماعات عرقية، وعلى رأسها قبيلة المساليت في إقليم دارفور. هذا الإعلان لم يكن مفاجئا للمراقبين، لكنه يمثل نقطة فاصلة في توصيف ما يجري في السودان منذ اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023.

انطلاق شرارة الحرب جاء نتيجة لصراع داخلي على السلطة بين الجنرال عبد الفتاح البرهان وقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو “حميدتي”، إلا أن تداعياتها تجاوزت الصراع السياسي، لتأخذ طابعًا إثنيًا ومناطقيًا مدمرًا. فبينما كانت الخرطوم مسرحًا لمعركة السيطرة على العاصمة، كانت دارفور – وكالعادة – الأرض التي دفع سكانها الثمن الأكبر.

وثّق تقرير شامل أعدّه الدكتور براين دولي، بطلب من ضحايا وناجين من الحرب، تسلسلًا مفجعًا لانتهاكات واسعة النطاق ارتكبتها قوات الدعم السريع. أبرز ما تضمنه التقرير هو التدمير المنهجي لمدينة الجنينة عبر ثلاث موجات من الهجمات، شملت استخدام المدفعية الثقيلة، عمليات إعدام جماعية داخل مكاتب حكومية، اغتصابات جماعية للنساء والفتيات، وحصار للمستشفيات والأسواق. تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل ما بين 10,000 و15,000 مدني في الجنينة وحدها.

لم تكتفِ قوات الدعم السريع بذلك، بل لاحقت الفارين من دارفور إلى تشاد، وهاجمت القوافل المدنية وأطلقت النار على الرجال والنساء والأطفال، فيما غرق العشرات في نهر كجا أثناء محاولتهم الهروب. كما وثّقت منظمات حقوقية اغتصاب عشرات النساء والفتيات في مستري، هبيلة، الفاشر، سنجة، والجزيرة، فضلًا عن تقارير عن استعباد جنسي لفتيات تم اختطافهن في جنوب كردفان.

كل ذلك جرى وسط صمت دولي وتواطؤ إقليمي. فقد سلّط التقرير الضوء على دور دولة الإمارات العربية المتحدة في تمويل وتسليح قوات الدعم السريع. وبحسب ما ورد في الوثائق، فقد استخدمت الإمارات مطار أم جرس في تشاد كنقطة عبور لشحنات السلاح والمعدات، بما في ذلك ناقلات جنود مدرعة فرنسية الصنع. كما أن الإمارات، وفقًا للتقرير، استوردت في عام 2022 وحده ما قيمته مليارَي دولار من الذهب السوداني، معظمها من مناطق تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

وقد أثارت هذه الحقائق انتقادات دولية واسعة، حيث فرضت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على قادة بارزين في قوات الدعم السريع، بينهم عبد الرحيم دقلو، علي يعقوب، عبد الرحمن جمعة، وعثمان حامد، إضافة إلى شركات واجهة مثل “الجنيد” و”تريديف جنرال تريدينغ” المسجلة في الإمارات. ومع ذلك، لا تزال هذه الإجراءات تُعتبر متأخرة وضعيفة أمام حجم الكارثة.

من ناحية قانونية، يشير التقرير إلى أن إعلان الولايات المتحدة للإبادة الجماعية يفعّل المادة الأولى من اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة لعام 1948، والتي تُلزم الدول الأطراف، ومنها الولايات المتحدة وبريطانيا، بمنع الجريمة ومعاقبة مرتكبيها. كما أوضح التقرير أن دعم الإمارات العسكري واللوجستي والمالي لقوات الدعم السريع يرقى إلى مستوى “التواطؤ في الإبادة الجماعية”، خاصة في ظل استمرار الرحلات الجوية وتوريد الذخائر حتى أواخر 2024.

ورغم إنشاء مجلس حقوق الإنسان الأممي لبعثة تقصّي حقائق مستقلة، وإقرار لجنة الخبراء أن قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل والتعذيب والاغتصاب والاستعباد الجنسي والتهجير القسري، إلا أن آليات المحاسبة ما تزال عاجزة، وسط غياب إرادة سياسية دولية حازمة.

الواقع في السودان اليوم يتجاوز الحرب التقليدية؛ إنه نموذج حي لانهيار تام للعدالة الدولية، حيث تُرتكب الجرائم على الهواء، ويُتاح للجناة الوصول للثروات والأسواق العالمية دون رادع. وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي بسرعة، فإن هذا الصراع سيترك جرحًا غائرًا في الضمير الإنساني.

التوصيات التي خرج بها التقرير شملت:

– فرض حظر دولي شامل على تصدير الأسلحة إلى قوات الدعم السريع.

– إنشاء محكمة خاصة للتحقيق في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في السودان.

– إلزام الإمارات وغيرها من الدول المتورطة بوقف الدعم العسكري فورًا، والخضوع لتحقيق دولي مستقل.

– تقديم دعم مباشر للضحايا والناجين، بما يشمل خدمات علاجية ونفسية وحماية قانونية.

لقد آن الأوان للانتقال من الأقوال إلى الأفعال. فالسودان لا يحتاج مزيدًا من الإدانات، بل إلى تدخل حاسم ينقذ ما تبقى من أرواح ويعيد شيئًا من العدالة للمكلومين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى