قمر على بيروت.. في محبة لبنان ومواساته (2 – 3)

محمد عثمان إبراهيم

نشأنا نحن أطفالاً على أصداء الحرب في بيروت التي كانت تملأ صفحات التغطيات الدولية لصحيفتي الأيام والصحافة، وتبدأ بها الأخبار العالمية في نشرة الساعة الثالثة بعد الظهر في راديو أم درمان ونشرة التاسعة في التلفزيون الرسمي الممل.
كانت والدتي متعها الله بالصحة والعافية تحرص على الصاق أوراق الصحف على الحائط في المطبخ -قبل اكتشاف ما يعرف الآن بأوراق الحائط في السودان- وكانت إحدى تسلياتنا فيه القراءة من تلك الأوراق.
كنا نقرأ الأسماء الغريبة على آذاننا حينئذ وننادي بها بعضنا بعضاً على سبيل الممازحة الياس سركيس وسليمان فرنجية وبشير الجميل وشفيق الوزان وسليم الحص وجنبلاط وغيرها، وما زلت أذكر كم كنت متشككاً في صحة ما تنقله الصحف عن اسم المبعوث الأمريكي فيليب حبيب! كيف يمكن أن يكون أمريكياً واسم أبيه حبيب؟ لحسن الحظ نجحت لاحقاً في حل هذا السؤال الشائك.
حفظنا أسماء المدن والقرى والبلدات الغريبة أيضاً: صور وطرابلس والناقورة وبرج البراجنة والنبطية وبعلبك وصبرا وشاتيلا (يا الله.. يا للذاكرة الفاجعة).
كانت الصحف تنشر صور الجثث المشوهة والتلفزيون يعيدها وليست هناك تحذيرات بمنع أحد عن مشاهدتها، لكن كان أكثر ما يفجعنا -كأطفال- هو صور القتلى من الأطفال على سبيل التضامن الفطري السليم.
لم نك حينئذ ندرك أن بعض الناس يدفعون ثمن هوياتهم مبكراً ومبكراً جداً فيُقتلون دون أن يجنوا شيئاً في هذه الدنيا القصيرة الأجل من ذلك الانتماء. حين كانت آلة القتل الغربية الإسرائيلية تشرب من تلك الدماء ولا ترتوي، لم يكن الكثير من ضحاياها يدركون بأي ذنب قتلوا ولم يعرفوا أنهم كانوا يصعدون إلى ذلك المرقى البعيد إذ سيصبحون في الغد القريب لبنانيين، أي مقاومين للعدو الإسرائيلي نيابة عن الإسلام والمسيحية والعروبة والحق المطلق، وهناك من يرتعب من هذا الغد فيحاول قطع الطريق بينهم وبين المستقبل.
***
لبنان عالم كبير ومعقد وشائك ومهيب لكننا في هذا المقام/ المقال لا نستطيع إلا ان نأخذ بطرف فقط. لبنان بلد صغير المساحة يزيد قليلاً عن الـ10 ألف كيلومتر مربع يسكنه عدد محدود من السكان لكنهم قادرون على حكم لبنان والأرجنتين والبرازيل والإكوادور وبوليفيا والدومنيكان وجامايكا وكولمبيا وأورغواي وبورغواي وعشرات الولايات والمدن والبلدات ومئات الشركات الضخمة.
لبنان البلد الصغير لم يغز العالم بالحرب والأسلحة، ولكن بالمهارة والذكاء والبراعة والعمل الخلاق فقدموا آلاف الأثرياء الناجحين الأخيار، والفنانين ومصممي الأزياء والرياضيين والموسيقيين والعلماء والأدباء، والمفكرين، وصناع الرأي، والمبدعين.
يستطيع اللبناني أن يذهب إلى أي بلد في العالم يسمح له بالدخول لينجح في اليوم التالي معتمداً على الخصائص المهيبة التي توفرها له هويته، لذلك كان من الصعب عليه أن يحصل على تلك الهوية مجاناً مثلما يحصل على هوياتهم الآخرون.
يعرف العدو ذلك جيداً ويعرف أن الخصومة مع اللبناني والاستحواذ على حقه بالقوة أمر غير ممكن، بل مستحيل، وإن الكلفة المدفوعة عن مخاصمة اللبناني لا تنتهي حتى بالتخلص منه.
لبنان بلد صغير على المستوى الأفقي والمنظمات السياسية والعسكرية فيها صغيرة من حيث عدد المنتسبين ومساحة الحركة لكن هل يتساوى رأس برأس؟ أكل الرؤوس سواء؟ كما تساءل من قبل أمل دنقل.
الجندي اللبناني المقاوم بالخصائص الفريدة التي منحتها له هويته يساوى جيشاً بأكمله من جيوش الدول التي كتب عنها أحمد مطر:
ليست الدولة والحاكم إلا
بئر بترول وكرشا
دولة ٌ لو مسها الكبريت . . طارت
حاكم لو مسه الدبوس . . فـشـا
هل رأيتم مثل هذا الغش غشـا؟
مــم نخشى؟
نملة ٌ لو عطست تكسح جيشا
وهباءٌ لو تمطى كسلاً يقلبُ عرشا!
وهكذا فإن مقاوم واحد بهذه الخصائص الفريدة ليس مقدوراً عليه بالرشوة والغواية والتخويف والترهيب والبيانات العسكرية المصقولة والمدافع والدبابات. مقاتل بهذه الخصائص يحتاج إلى أن تحشد أمريكا وإسرائيل أحدث ما وصل إليه العقل الإجرامي الجبان من القنابل الأقل بدرجة واحدة من القنبلة النووية.
هذا يعيد العالم عقوداً إلى الوراء إلى العهد الذي عرف بعهد الحرب العالمية الثانية، لكن علينا قبل المضي قدماً أن نعيد الآن نيابة عن سكان العالم الحر المسالم تعريف ما ظل يوصف بالحروب العالمية تعريفها الصحيح بوصفها حروباً بين الغرب وبين الغرب. لم يكن العالم الآمن في أفريقيا وآسيا وبلاد العرب معنياً بتلك الحرب البشعة والتي وصف وقعها المفكر الأفريقي العربي البارز البروفيسور علي مزروعي بأنها لم تكن في ذهن من حضروها سوى مباراة مثل مباريات كرة القدم لا يعنيهم فيها من يكسب ومن يخسر؟
قنبلتان نوويتان فقط أطلقتا قبل ثمانية عقود لتنهي حرب العالم الغربي كله ضد العالم الغربي. والآن عشرات القنابل تلقى على حي سكني واحد. أي الطرفين قد انتصر إذن؟
إلى كم من القنابل والطائرات ستحتاج إسرائيل وأمريكا إذا أرادتا التخلص من ألف عدو لها من لبنان؟ ومن سيدفع الثمن؟
***
كانت تلك الحرب الغربية مؤامرة كونية لتحقيق مجموعة هائلة من الأهداف نأخذ من بينها هدف التخلص من اليهود بواسطة بني أوطانهم وبني جلدتهم. كانت تلك حرب حضارات وإن تخفت تحت أشكال مختلفة وهناك كتابات مقموعة عمن قتل ومن سرق ومن نهب. لم يخسر اليهود في تلك الحرب البشعة ملايين الأرواح فقط لكنهم خسروا مليارات الدولارات التي كانت مودعة في حسابات مصرفية علنية وسرية ورثها الطرف المنتصر في الحرب. هكذا اقتسم طرفا مؤامرة الحرب على اليهود الجريمة: طرف قتل وشرد، وطرف تواطأ ونهب وسرق. بالطبع لم يكن ذلك سبب الحرب لكنه كان أحد نتائجها المدروسة.
والحرب الأمريكية الجديدة مع إسرائيل هي حرب أخرى ضد اليهود لأن حماية وطن حصري لليهود نفسها فكرة عنصرية وفق ما سمعت مرة من طارق علي المفكر اليساري البريطاني.
اجتهاد أمريكا والغرب في حماية دولة لليهود باحتلال فلسطين فكرة تحمل في داخلها عداء لليهود وتشجيعاً على العيش معاً بعيداً عن بلدانهم التقليدية التي عاشوا فيها أجيالاً وأجيالاً لأن الحضارة الغربية والثقافة الغربية ليست قادرة على التعاطي الإيجابي معهم.
تقدم أمريكا مليارات الدولارات وتضع آلتها الحربية بدعم غربي هائل لحماية إسرائيل كيلا تعود الأرض إلى فلسطين فيعود اليهود إليها. هذه ليست فكرة جديدة فقد التقطتها من الحاخام جوناثان ساكس المفكر والمتحدث والكاتب البريطاني الراحل والذي أنصح العرب والمسلمين ممن لم تسنح لهم الفرصة لقراءته أن يهتموا به.
قال ساكس مرة وهو الحاخام الأكبر في بريطانيا في محاضرة له عام 2012م “إننا نخسر اليهود في بريطانيا. في العام 1945م كان هناك حوالي 450 ألف يهودي، وحين توليت منصب الحاخام قبل 21 عاماً كان اليهود في بريطانيا حوالي 300 ألف فقط”
وفي نفس المحاضرة قال” على مدار التاريخ الطويل، أصر اليهود فقط على الحق في أن يكونوا مختلفين، وعلى واجب أن يكونوا مختلفين وعلى كرامة الاختلاف. طوال تاريخ البشرية، رفض اليهود -فقط- بشكل متصل الاندماج في الثقافة السائدة أو التحول إلى الإيمان (الدين) السائد”.
هذا ما يجعل الاختلاف بين الغرب واليهود أعمق وأكبر من أن يلتئم، وهذا ما يجعل الحضارة الغربية غير مستعدة لإبقائهم وسطها وهي غير قادرة على ابتلاعهم وغير موقنة بسلامتها من قدرتهم على ابتلاعها لذا فإنها تدفع ثمن ابقائهم بعيداً عنها.
***
علاقتنا في السودان مع لبنان ظلت حية ودافئة وساخنة لكنها من بعيد فقلة المصالح السياسية والاقتصادية قللت من التواصل المباشر بين الشعبين لكن التواصل غير المباشر ظل حميماً من خلال القراءة وهذا عالم لوحده يصلح لكتاب كامل.
علاقتنا في مدينتي الصغيرة مع بيروت بدأت في العام 1982م حين استقبلنا قوافل القادمين منها بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية منها. زارتنا بيروت لكنني لم أزرها إلا في مفتتح العام 2023م بتشجيع من الصديق العزيز والرفيق المناضل الكاتب الصحافي حسين أيوب.
تعرفت على الرفيق حسين من خلال الكتابة لكنني اكتشفت اننا نحمل تاريخاً متشابهاً في العمل الثوري والصحفي وفي تقارب السن والكتابة لكن حسين الإنسان يتفوق على من سواه. حسين دفع ثمن هويته اللبنانية أكثر من مرة وكان الثمن في كل مرة غالياً وعزيزاً وكبيراً فهو المناضل بسيفه ثم بقلمه، وهو ابن الشهيد المناضل علي أيوب الذي حمل بندقيته في العام 1972م ووقف أمام الدبابات الإسرائيلية التي اجتاحت حدود الجنوب اللبناني ووجه نحوها رصاصاته الفصيحة وقال كلمته بوضوح ثم ارتقى شهيداً كأسمى ما يكون الموقف.
قدم علي أيوب المناضل اليساري الشيوعي روحه فداء لوطنه وقوميته وفكرته وهو في السابعة والأربعين فخلده الشاعر:
أمضيت عمرك عاملاً خلاقاً وقضيت نحبك صائراً عملاقا
ونقشت في صخر الخلود عبارة ستظل تسطع في العلا إشراقا
أنا لا أصدق أن أيوب انطوى أيوب باق في السما خفاقا
وبعد 34 عاماً على استشهاد الأب، استشهدت الأم أرملة الشهيد بيد ذات العدو الإسرائيلي الجبان وتحت سمع وبصر حلفائه العرب والغربيين.
كتب في مناسبة رحيلها الباهي الكاتب اللبناني الكبير نصري الصايغ مواسياً ابنها حسين “دلني على عنب الكلام، لأقطف دمعتين، وأيتم انتظار الركام. هي هناك. أم تغير عنوانها. لم تبدل حجها؟ هي وفية لقبر الشهيد. كان الحجيج بليغاً، فخطت إليه. ومن فرط الدعاء، صلت على دمها ونامت”.
حين دخلت على بيروت للمرة الأولى كنت أعرفها. كنت أعرف طريقي من المطار إلى الفندق (اخترت فندق الكومودور لأجلس في الردهات التي كان يجلس فيها أبوعمار وعلي حسن سلامة وزعماء الطوائف في عصر ما بعد الطائف) وكنت أعرف بعض أسماء الشوارع، والضاحية، وصبرا وشاتيلا، ومقهى البريستول، ومسرح المدينة، والميناء المحترق، وصحف السفير والنهار والأخبار، وبوول شاوول.
سائق التاكسي لم يساومني كثيراً من المطار فقد شعر بأنني أعرف ما أريد.. قلت له إن الأجرة هكذا وأنا سأدفع كذا لأنني أريد المرور بصرافة لتبديل النقود ورؤية شارع الحمرا. قال لي “أدفع اللي بدك إياه” ودهشت من طيب الخاطر هذا والرضا. في رحلة التالية وصلت إلى المطار واصطف سائقو التاكسي لكنني رأيت حيدر الذي صرت زبونه فقلت لهم انا سأركب مع حيدر. تبادلنا بعض الأحاديث وأوصلني إلى ذات الفندق مع تأكيد بالعودة إلى في الموعد المحدد لأخذي إلى المطار مرة أخرى.
المطار أنيق وجميل وأسعار السوق الحر منخفضة بالمقارنة مع مطارات أخرى عبرتها في طريقي لكن هناك مظاهر عسكرية لافتة. الخدمة في طيران الشرق الأوسط رائعة والطاقم في غاية التعاون والبهاء. السفر إلى بيروت رغم نشرات الأخبار غير المشجعة مدعاة للفرح، لذلك لا يمكنك اغفال رؤية الفرح في عيون القادمين.
بيروت منذ سنوات تخضع لحصار قاس ولئيم من الدول العربية على الخليج الفارسي وإسرائيل والغرب. تراها في الليل مظلمة بسبب عدم قدرة الدولة على توفير الكهرباء. جهاز الدولة متعطل والموظفون يذهبون إلى الدوام مرة في الأسبوع لتلبية حاجات المواطنين. المصارف مغلقة والاستثمارات الأجنبية انسحبت والمحلية غلت يدها بانتظار الحرب الوشيكة. شارع الحمرا كان خالياً من المارة بعد منتصف الليل، وأنا بلحيتي البيضاء أليق به وأستطيع التجول فيه بلا حياء فهو لم يعد بسمته الشبابي القديم. رأيت مجموعة من الخليجيين بملابسهم المميزة وهم يصرخون في الشوارع مرحاً ليس بفعل المرح المتوفر في الشارع، ولكن بفعل المدن الكئيبة التي أتوا منها.
في اليوم التالي تجولت في كل مكان والتقطت عشرات الصور وزرت الكثير من المقاهي والأمكنة. لفت نظري أنه بالرغم من الانهيار الاقتصادي البين فإنه لا يوجد متسولون في الشوارع ولا يوجد حذر من اللصوص. لا توجد شرطة والجيش هو الذي يحفظ الأمن في المدينة عند الضرورة ولا من ضرورة بينما تُركت مهمة حماية الحدود للمقاومة. هناك صناديق زجاحية في الشوارع لتلقي التبرعات ولم اسأل عمن الذي يقوم بتفريغها وجمع تبرعاتها وتوزيعها، لكن اللبنانيين الذين نابوا عن الدولة في القيام بمهامها في كل شيء من توفير الكهرباء إلى حفظ الأمن وجمع النفايات وضبط سعر العملة -قدر المستطاع- لن يعجزهم القيام بواجب الرعاية الاجتماعية للضعفاء والمعوزين.

Exit mobile version