في مسرح الحرب السياسي الدبلوماسي(1)

د. ابراهيم البشير عثمان الكباشي

ما من حرب واحدة في التاريخ ، بحجم حرب السودان الراهنة ، إلا و تجري على مسرحين..
مسرح قتالي عسكري مؤقت ، طال آمده أو قصر.
و مسرح سياسي – اقتصادي- قيمي.. أطول عمراً ، و أكثر عمقاً و أبقى أثراً في حياة الشعوب.. هذا هو الذي من أجلِ غاياته الاستراتيجية تجيش الجيوش و تشن الحروب. و لقد صدق كلاسوتز حين قال :” war is continuation of politics by other means ” أي الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى ”

فلا ينبغي أن يغرب للحظة عن ذاكرة شعب السودان و قيادته ، أنّ معركة أشد وطأً ، على الصعيد السياسي – الدبلوماسي يلزمنا خوضها تماماً كما نخوضها على المسرح العملياتي الميداني .
فمثلما حشد العدو قبل 15 أبريل 2023 ، أقصى ما استطاع من لوازم الحرب ضد شعب السودان وجيشه : بالجند و المرتزقة .. و بالتدريب و التمويل والسلاح.. و الإسناد الدبلوماسي الدولي و الاقليمي ، وبشراء ذمة كل من توفرت عنده القابلية لبيع ذمته ، فإنه يحشد اليوم كذلك ، و بذات الأدوات و المنهج ، مواقف دول و قادة و منظمات على الصعد الاقليمية و الدولية ، من أجل حرمان السودان من بلوغ نصر كاسح ، به تتحرر إرادته الوطنية الخالصة و يتحقق استقلاله و سيادته على أرضه .
يحشد العدو اليوم سائر مستلزمات المواءمة الظرفية التي بها يتحقق له ما لم يتمكن من انتزاعه – لبلوغ أهدافه الاستراتيجية – بقوة السلاح .
إن الهدف الاستراتيجي الأعلى للحلف الرباعي الذي شن الحرب على السودان قد افصحت عنه يوميات الصراع نفسه بكل وضوح ، قولا و فعلا , وهو إنهاء دولة السودان و إزالتها من خريطة العالم ، بعد القضاء على جيشها، و أيلولة ميراثها – بمقادير متفاوتة – لكتل التحالف الأربع .

التحالف الذي انخرط في الحرب على السودان يتألف من كتلٍ أربع ، متساندة و متناسقة ، بأعلى درجات الإعتماد المتبادل ، لكل منها دوره المرسوم حسب المتاح الظرفي في فضاء حركته ، لكن الهدف الاستراتيجي النهائي واحد..هو تفكيك السودان بدءاً بتفكيك جيشه.

الكتلة الأولى :
تحالف دولي تقوده بريطانيا و امريكا و فرنسا و إسرائيل و الأمارات المتحدة. و كأنما أوكل شركاء هذه الكتلة للأمارات – أو كان ذلك طوعاً من ذاتها – أن تتولى مهام السيطرة و التوجيه و القيادة ، بما في ذلك الكلفة المالية و اللوجستية و سائر مطلوبات التنسيق و القيادة .
ففي عواصم هذه الكتلة تم تصميم مشروع تفكيك السودان ، لسنين خلت ، منذ أن كان ذلك نظرية “خام ” تعتمل مدارستها خلف أبواب مغلقة في أجهزة مخابراتها ، و في مراكز فكرها الاستراتيجي ، إنتظاراً لانضاج الظروف التي تجعل إنفاذ المشروع ممكنا. و قد تواترت ثُمّ تكاملت هذه الظروف بصناعتها للحراك الذي أنهى حكم الأنقاذ.. وبزوال الأنقاذ أزيلت العقبة الأكبر أمام مشروع تفكيك السودان . وقد راى الناس كيف تصدر سفراء هذه الكتلة (بتنمر طاغ) ذلك الحراك . تلك ممارسة استباحت تماما سيادة السودان ، في سلوك لم تسجل مدونات التاريخ الدبلوماسي العالمي له نظيرا . فالعلاقات الدولية المعاصرة لم تعرف وظيفة حظيت ممارستها بتنظيم قانوني شديد الدقة و التفصيل كما شهدت وظيفة التمثيل الدبلوماسي . فمنذ مؤتمر فينا 1815حين نشأت فكرة التمثيل الدبلوماسي المقيم ، مروراً بكل تعرجات العلاقات بين الدول- عبر القرون – حتى ميثاق الأمم المتحدة ، و انتهاءً باتفاقية فينا 1961 التي تفصل بدقة ما يجب التزامه في ممارسة التمثيل الدبلوماسي . ثم اتفاقية فينا 1963 التي تنظم بذات النهج العلاقات القنصلية . هذه هي أدوات القانون الدولي الحاكمة للتمثيل الدبلوماسي . غير أنَّ سفراء هذه الكتلة استمرأوا استباحة البلاد و انتهاك سيادتها . فلقد كان منسوبو الكتلة الثالثة في هذا الحلف (كما نبين أدناه ) موظفون تحت إدارة هذه الكتلة الأولى . فهي التي دفعت، و ما انفكت تدفع ، رواتبهم و تكاليف حركاتهم ، و هي التي كانت تصنع سياسة البلاد الداخلية و الخارجية في سنوات حمدوك و قحت ، و هي التي تُرْفع إليها تقارير أدائهم . بل ذهبت هذه الكتلة في يناير 2020م إلى مخاطبة الأمين العام للأمم المتحدة سراً ،(باسم حمدوك) لأنشاء بعثة سياسية تتولى بالكامل إدارة السودان في جميع شعاب الإدارة . و بذلك سعت بتخفٍ ماكرٍ لتصفية استقلال البلاد و وضعها فعلياً تحت الأنتداب الدولي .
تلك كانت حالة ” الرق المنحوس ” التي وفرتها غيبوبة الدهر الكبرى في أخر 2018م و ما بعده . فقد تهيأت سوانح تولَّدت منها إغراءت المتربص الأجنبي باستعمار السودان…
” الرق المنحوس ” (بهذه المناسبة ) مصطلح نحته العلامة عبدالرحمن الكواكبي عندما كان يخط كتابه الموسوم ” طبائع الاستبداد و مصارع الإستعباد ” ، ويعني به هيمنة و استغلال القوى الأجنبية المترصدة لحالة الضعف المتردي في دولة ما، قضت أقدار الله أن تنزلق في مهاوي التيه العدمي . فلقد تلقفت هذه الكتلة – المترصدة أصلاً بالسودان – حالة الغيبوبة حينذاك ، وتولت بذاتها التحكم في وجهة البلاد .

و الكتلة الثانية:
تحالف اقليمي من تشاد ، و بعض أعيان دول الساحل الأفريقي ، وأفريقيا الوسطى ، وكينيا ، ويوغندا ، و اثيوبيا، و ليبيا حفتر، و جنوب السودان..ثم عناصر قيادية في المنظمات الاقليمية ( الاتحاد الأفريقي و الإيقاد) . وقد ضُخ بين عناصر هذه الكتلة مال سياسي كثيف اتخذ صوراً متعددة ، حتى أزكمت أخبار الرشاوي أنوف الأفارقة على نحو لم يسجل التاريخ له نظائر . المراد من هذه الكتلة توفير إسناد اقليمي قاري تطوره حليفتها الكتلة الأولى – حين نجاحها في الاستيلاء على البلاد و تدمير جيشها – الى إسناد دولي يدعم ويعترف بنتائج أمانيهم في مشروع تفكيك السودان.

Exit mobile version