في العيد الأربعين للإذاعة (إبريل 1940-1980) لا هي حشرة تطن ولا هي بلبل يصدح، ولكنها سنوات خصيبة

عبد الله علي إبراهيم
كلمة نشرتها على عمودي الأسبوعي بجريدة الصحافة ونشرتها في كتابي “عبير الأمكنة”
“إلى حبيبنا علي شمو”
نشأت الإذاعة السودانية في ملابسات إعلام الحرب العالمية الثانية. ولم تسلم كما هو متوقع من شرور هذه النشأة العصيبة. فقد وصمها مذيع المحور العراقي يونس بحري بأنها حشرة تطن في قلب أفريقيا وتقول (هنا أم درمان!).
وهي كلمة لئيمة. ومن أسف أن كلمة يونس هذه عن الإذاعة استقرت بين قطاعات من مستمعيها، فتلاشي ملابسات كلمة يونس لم يمنع من بقاء الكلمة ذاتها كرأي في أداء الإذاعة ونطاق بثها.
والمتعلمون هم أميز من استقرت بينهم كلمة يونس. وهو أمر لا مناص منه. فتوقعات المتعلمين عندنا، بفضل نظام التعليم المجاني، من أية مؤسسة وطنية من العظم بدرجة لا يسع تلك المؤسسة معها مقابلتها ولو أرادت. وهي توقعات لا سند لها في واقع الأمر. ليس لأنها مستعارة من أداء وكفاءة مؤسسات عالمية فحسب، بل لخلوها في نفسها من عنصر الفاعلية والإبداعية أيضاً. وهو خلو يهبط بهذه التوقعات ويحيلها إلى أضغاث أحلام. وهي في الأحلام لؤم خالص لمزاج (التريقة) الذي غالباً ما صحبها. فالإذاعة السودانية ماتزال في نظر هذه الفئة تلك الحشرة القديمة الطانة. وهي تهرب من الاستماع لها محمولة على مؤشر الراديو إلى القسم العربي بإذاعة لندن وصوت العرب وصوت أمريكا ومونت كارلو وغيرها. وصفة التوقعات العاجزة مما تشترك فيه حالياً مع المتعلمين قطاعات أوسع فأوسع بفضل اضطراب السوق الوطنية وسيادة الاستهلاك التفاخري الذي تتطابق فيه الجودة من جهة والاستيراد من جهة أخرى. بمعنى آخر هي الروح التي تضع المؤسسة الوطنية مثلها في ذلك السلعة السودانية في الكفة الشايلة من الميزان ابتداءً.
في وسع المتعلم السوداني أن يدفع ما أخذنا عليه من استنكاف دفعاً مطولاً. وسيجد بعض الحجج الوجيهة، بل والدامغة خاصة بالنظر إلى الشروط السياسية والمهنية التي تحكم الأداء الإستراتيجي للإذاعة. ومع ذلك فنحن لا نريد بهذه الكلمة تبرئة ساحة الإذاعة كمؤسسة من تبعتها في عزلتها من هذا القطاع من مستمعيها الذين يفضلون رصفائهم المستمعين بإمكانية المساهمة. وهي مساهمة اقتصرت حتى الآن على قطاع محترف له حسنات الاحتراف وعليه تبعاته. وقد استمعت إلى طائفة من هذا القطاع عُرفت “بأدباء سوق الموية” في الخمسينات في برنامج خاص بالعيد الأربعين. واعترف بفضل هذا البرنامج في تحسين معرفتي وظني بمساهمة هؤلاء الأدباء وخاصة في حقل الدراما الإذاعية. والشكل الغالب لهذه المساهمة عند غير هؤلاء المحترفين هي الأنفاس القصار، يبدأ البرنامج ثم يتلاشى وتتعدد الأسباب. ويبدو أن لطابع هذه المساهمة التي تتراوح بين الاحتراف والتقطع دخل في خلو يد الإذاعة من خبرة مستقرة في التعامل مع فئات المتعلمين.
ويحضرني بهذا الخصوص ذلك البرنامج الطموح الذي أرادت به الإذاعة تغطية نهر النيل. ونادت لاجتماع يحضر له نخبة مختارة من متعلمي البلد. لست أعلم ما أنتهى اليه هذا الطموح الخليق بالنيل، ولكني لا أتفاءل. قد فات على الإذاعة أن الغالب من المتعلمين يكفيه إعلان الدعوة عن موضوع الدعوة. ومن ذلك أيضاً مسابقة النصوص الدرامية التي تروج لها الإذاعة والتي تقول إنها لا تشترط لها شروطاً غير كذا وكذا وكذا. وإذا بها شروط ككل الشروط. وفات على الإذاعة هنا أيضاً أن مبدعينا المجيدين بين متعلمينا خاصة حساسون جداً لمن يستلفت نظرهم لموضوع إبداع ما بإغراء نوال ما. وهذا كله في معنى قولي بضعف تدريب الإذاعة في التعامل مع المتعلم بعامة.
احتفلت الإذاعة في 18 أبريل المنصرم بأربعين سنة مضت على نشأتها. وهو احتفال ببلوغها سن الحكمة كما قال د. خالد المبارك. ويقتضي الإنصاف أن نقول إنها كانت سنوات خصيبة برغم ظروف معاكسة ليس أخطرها ما أتينا عليه آنفاً في علاقة الإذاعة بالمتعلم. ومن آيات ذلك الخصب مساهمة الإذاعة المفردة في تجميع وتقديم والتعريف بضروب مطوية من الثقافة السودانية. فقد نبه الريفي في جريدة الأيام (20/4/80) إلى تقديم الإذاعة فن المدائح كخدمة ثقافية ممتازة. وشبه علي شمو في ندوة إذاعية على شرف العيد الأربعين برنامج “حقيبة الفن” على زمن تقديمه له كمحطة أبحاث تتلقى البلاغات عن وجود أغنية ما فيضع البرنامج يده عليها ثم يعطيها للفنان المناسب ليؤديها على النسق القديم ما استطاع. وهكذا ابتعث ذلك البرنامج أغاني العشرينات وما تلاها من عقود باسم “الحقيبة”. ومن هذا الباب أيضاً تقديم الإذاعة لفن سوداني خالص هو إنشاد الشعر الذي هو ابتداع خاص بالشاعر الفحل محمد سعيد العباسي. وتقديم هذه الضروب الثقافية بجانب الخدمات الأخبارية والترفيهية (التي أثمرت الأغنية السودانية الحديثة)، والذي انطوى على بحث ودأب وشغف، مما يزكي القول بخصب مساهمة الإذاعة في حياتنا. وقد أسعدني أن الإذاعة تولى حفظ تراثها هذا عناية مقدرة من ذلك انشاؤها لمكتبة وثائقية غير مكتبة الشرائط المتداولة. وسيكون بوسع الكثيرين الحكم لصالح الإذاعة لو جرى تصنيف محتويات المكتبة الوثائقية على أسس بحثية معلومة. وهو حكم الإذاعة في أمس الحاجة إليه. وستفيد حركة البحث الراهنة التي استوى عودها من هذا التصنيف الذي يفتح عليها كنوز هذا المصدر الضروري.
وظني أن المذيعين هم أكثر ممن قد سعد بذاك الاحتفال. فلربما كانوا بحاجة إلى الاستماع إلى أبوعاقلة يوسف، وعلي شمو، وصالحين الذين بدأوا مثلهم ليصبحوا أسماء تتخطفها المراكز المرموقة. وكان المذيعون بحاجة خاصة إلى من يحدثهم عن معنى القيادة في الإذاعي في وقت طغى فيه بهرج النجومية. وقد عرضت ندوة الثلاثة الكبار للنجومية لتصلها بمعنى القيادة وتطلب لتلك الغاية تحسين شروط عمل وحياة الإذاعي.
مذيعو وقتنا الحاضر كانوا أيضاً بحاجة إلى بيان بالفعل في الأداء الإذاعي في مثل الذي جاء في برنامج “حقيبة الفن” للمبارك إبراهيم. سأل المبارك الشاعر علي المساح عن تاريخ ميلاده ورد المساح ليجيء بالتاريخ الهجري لميلاده. وسارع المبارك إلى تحويله إلى الميلادي. وهذه حساسية فائقة بالمستمع وقدراته. وكان واضحاً أن المبارك في تقديمه للحقيبة يصدر عن إلمام حسن بالموضوع. وهذا ما يجعل الخدمة الإذاعية متعة خالصة للمستمع يتضافر فيها المذيع والضيف لتقديم أفضل معارفهما. وهذا حال غير حال شكوى ضيوف الإذاعة من المذيعين الذين يطلبون منهم إعداد الأسئلة عما سيقدمونه للمستمع. وهذا نوع غش يكون به الضيف تعساً والمضيف غائباً والمستمع ضجراً. وقد راقتني الكلمة التي ترجم بها أحمد الزبير للفنان الأمريكي ليوي ارمسترونق في برنامجه “أشكال والوان” وهي ترجمة لا زخرف فيها، ولا تلاعب بالوحدات ولا.. ولا.. وهي ترجمة منبئة عن اطلاع حسن، وصبر على الإعداد.
وعليه كان مذيعونا أكثرنا حاجة إلى احتفالهم بالعيد الأربعين. وهم في الذي هم فيه من حصار. فاللعنات تنوشهم من كل جهة، فحتى برنامج “الإذاعة والمستمع” لم يعد يخلو من ملحوظة أو أخرى لمستمع عن أخطاء المذيعين. ونادراً ما تصدر صحيفة بغير طعن في كفاءتهم مثل العنوان الذي جاء في الصحافة (19/4/80) “انهم يذبحون الشعر في “صوت الأمة”. وراجت لفترة نكتة بين المتعلمين تسأل من غير “الناطقين بها” الذين يعني بهم معهد تعليم اللغة العربية بالخرطوم لتجيب أنهم المذيعون. وقد يسعد المذيعون أيضاً أن يتوافق العيد الأربعين لإذاعتهم مع ظهور اتجاهات حانية بهم في واقع أزمتهم مع لغتهم التي هي وجه من وجوه هوان لغتنا علينا في الوطن. فقد كتب حامد الماحي في الصحافة 17/4/80 يؤمن على عسر نطق العديد من أسماء قرانا وأصقاعنا. وأراد حامد بكلمته هذه أن يعذر المذيعين أن أخطأوا. وهو يقترح أن تضبط بالشكل هذه الأسماء وغيرها من الكلمات العصية. وهذا رأي بسيط صحيح لصدوره عن تعاطف واقتناع بضرورة وإمكانية الصواب. وما يوحي به هذا المسلك المتعاطف مع المذيعين غير بعيد من أمنية قال علي شمو إنه قد تمناها للإذاعة على أيام قيادته لها، وهي إنشاء معهد خاص لتدريب المذيعين والإذاعيين في أصول صناعتهم وما اتصل بها.
لم أر سبباً مقنعاً لاستثناء ركن القرآن الكريم من المساهمة في جلبة العيد الأربعين. وهو استثناء مفهوم فقط في الرائج عندنا من صورة الدين ورجل الدين. وقد استغربت ذلك لأن هذا الركن أضحى المستودع لواحد من أميز برامج تفسير القرآن الكريم الذي قدمه بروفسير عبد الله الطيب في الستينات. وقد خلا الركن منه كلية يوم الاحتفال. وكان رأيي دائماً أن ركن القرآن الكريم بحاجة إلى مراجعة أهدافه في ضوء احتياجات عقائدية وفكرية متجددة. وهي مراجعة جديرة بالعيد الأربعين. ومن ذلك ما نقله الريفي في الأيام 20/4/80 عن مستمعين راغبين في تعلم العبادات والمعاملات من الراديو. ومثلهم مستمعون آخرون راغبون في تعلم علوم القرآن الكريم بصورة منهجية بواسطة الإذاعة لأن ما يقدمه الركن حالياً من هذه العلوم لا استقرار فيه ولا يخضع لمناهج معلومة ذات بدايات ونهايات لبدايات، علاوة على ما فيه من تعقيد كثير ناشئ من افتراض لا أساس له. هو معرفة المستمع بالمادة المخصوصة.
لقد انقضت أربعون عاماً خصيبة على ميلاد إذاعتنا. وهي مدة كافية بكفاية لنرى خيبة فأل يونس بحري الذي صورها حشرة تطن. وهي مدة كافية أيضاً لنأسف على قصور الإذاعة أن تكون البلبل الغريد الذي توقعه المتعلمون منا. ولعل الإذاعة والاذاعيين بحاجة إلى جانب هذا العيد الطريف إلى مصدر للأمل عجيب. وغالباً ما اتصل الأمل بالعجب. فقد سأل الصحفي الشيخ درويش طفلاً من شارع حيهم القديم بكسلا: هل تعرف الخرطوم؟ فأجاب الطفل: فيها جنينة الحيوانات وركن الأطفال. فهذا بعض ما تريده أي إذاعة لنفسها: أن تكون عاصمة على نحو ما.
Exit mobile version