تقارير

عينٌ على كادُقلي: حصار وجوع واحتجاجات نسويّة واعتقالات

جوليوس الجيلي وآدم إبراهيم

شهدت مدينة كادقلي بولاية جنوب كردفان، الأحد الماضي، تظاهرةً احتجاجيةً نظّمتها مجموعة من النساء بالقُرب من فرع بنك السودان المركزي بالمدينة، طالبن خلالها والي الولاية بالإفراج عن المساعدات الإغاثية المُحتجَزة في مخازن الفرقة 14 مشاة، وفتح مخازن السلع الأساسية. وناشدت النسوة الحكومة التدخل العاجل لمُعالجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالمدينة؛ ورفعن شعارات تحمل عبارات «كادُقلي تحتضر» و«لا للحرب الاقتصادية»، غير أن ردّ السلطات كان عنيفاً، إذ أرسلت قوةً من الشرطة لتفريق الاحتجاج، وأسفر تدخُّلها عن اعتقال 15 من النساء المشاركات.

وقبل تفاقُم الأزمة، كانت حكومة الولاية قد استقبلت مساعدات إنسانية، من بينها شحنات إغاثية جلبتها منظّمة برنامج الغذاء العالمي خلال السنتين الماضيتين، وجرى تخزينها في مستودعات الفرقة 14 مشاة بحسب مصادر محلية تحدثت لـ«أتَر». غير أنّ المواطنين يرون أنّ هذا التصرّف حرمهم من حقوقهم الأساسية في الغذاء والدواء، في ظّل وضع بالغ القسوة، وفي وقت هم فيه بأمسّ الحاجة إلى تلك المساعدات.
وفي ضحى الاثنين 21 يوليو، شهد السوق الكبير وسط المدينة حالةً من الفوضى، بعد أن أطلق أحد عناصر قوات «كافي طيار» المنضوية تحت قيادة الجيش الرصاصَ في الهواء، ودعا المواطنين إلى اقتحام المحال التجارية وأخْذ ما يحتاجون إليه، مُهدّداً من يعترضهم بالمواجهة. واستمرّت حالة الفوضى وقتاً وجيزاً قبل أن ترسل السلطات قوةً عسكريةً لاحتواء الموقف.

لم تتوقّف التداعيات عند هذا الحدّ؛ فبحسب شهود عيان، قادت قوات «كافي طيار» – بعربتي تاتشر محمّلتين بأسلحة دوشكا – حملةَ تفتيشٍ لمخازن السوق في محاولة للكشف عن السلع المُخزَّنة، وسط إطلاق نار كثيف في الهواء لبثّ الرعب بين التجّار والمواطنين. وفي الأثناء، تجمّع المواطنون وكسروا مخازن ودكاكين بالسوق، وقد اصطدمت هذه الحملة بقوات أخرى تُعرف باسم «المَطَوَّة»، كانت قد انضمّت في الآونة الأخيرة إلى صفوف الجيش، فاندلع اشتباك عنيف بالأسلحة النارية بين الطرفين، أسفر عن مقتل وإصابة أكثر من عشرة مواطنين، إضافة إلى نهب الدكاكين ومخازن الذرة والمغالق وتخريب السوق بالكامل.

وأفاد المواطن عمر كجو «أتَـر»، وهو شاهد عيان على حادثة نهب السوق، أنّ العملية قد جرت دون علم قوات الفرقة، وأنّ قوةً من الشرطة العسكرية وصلت بغرض التدخّل، لكنها انسحبت فوراً عندما علمت بأنها قوة تتبع لكافي طيار.

جاء هذا بعد المؤتمر الذي عقده كافي طيار بمنزله، وناشد التجّار بضرورة فتح المخازن، واعتبر احتكارهم للسلع تمرّداً على الدولة.

بعد يومين من الوقفة النسوية، خرج أهل كادقلي في تظاهرة حاشدة للمطالبة بالإفراج عن النساء المعتقلات في السجون. لكن الردّ كان أكثر عنفاً، إذ أسفر التدخّل الأمني عن مقتل 6 أشخاص، بينهم الطفل مصعب عبد الحليم لادو الذي قُتل بطلق ناري، وأصيب ما لا يقلّ عن عشرة أشخاص، إضافة إلى اعتقال عدد من المتظاهرين، بينهم نساء وأطفال وطلاب مدارس، وأبرزهم فتاة قالت إن «الإغاثات تخصّ المواطنين لا الجيش».

وفي تصريح لوالي الولاية محمد إبراهيم عبد الكريم، قال إنّ عمليات التخريب هذه تأتي ضمن مؤامرات تنظمها الخلايا النائمة من الخصوم والمتفلّتين من المواطنين الذين لا يريدون استقرار الولاية.
ومنذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل، ظلّت مدينة كادُقلي تحت سيطرة القوات المسلحة، لكنها تخضع في الوقت نفسه لحصار مزدوج من قوات الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو. وقد أدّى هذا الحصار، إلى عزل المدينة عن بقية أنحاء البلاد، ما زاد من حدّة الأوضاع المعيشية والصحّية والأمنية. وتشهد المدينة أزمة إنسانية مُتفاقمة في ظلّ نقص حادّ في الغذاء والدواء، وانهيار متواصل في الخدمات الأساسية، ما زاد من معاناة السكّان، خاصة الفئات الضعيفة من نساء وأطفال ومرضى، بسبب إغلاق الطريق القومي من قِبل الدعم السريع بمدينة الدّبيبات، بين مدينتي الأبيّض والدلَنْج. ونتيجة للاشتباكات المتكرّرة بين الجيش الشعبي والقوات المسلحة بمعسكر الكرقل الواقع بين مدينتي الدلنج وكادُقلي، توقّف خط النقل البديل «الفولة – الخرسانة».

وإلى جانب حكومة الولاية، أسهم بعض التجّار في تعميق الأزمة من خلال احتكار السلع الأساسية ورفع أسعارها، مُستغلين شُحَّها لتحقيق مكاسب مضاعفة. وظلّ سوق أم عدارة بمنطقة الدبيبات، وسوق النعام، منفَذيْن تجاريّين وحيدين يمدّان كادقلي بالمواد الغذائية، والأدوية، والمحروقات أثناء الحصار. لكن بعد المعركة التي شهدتها الدبيبات، وسيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة، انقطع الطريق القومي الرابط بين المنطقتين، لتجد كادُقلي نفسها في عزلة خانقة يخيّم عليها شبح المجاعة والمرض.
ويقول مصدر طبّي في مستشفى كادُقلي تحدث لـ«أتَـر»، فضّل حجب اسمه، إنّ النساء في المدينة هنّ الأكثر تضرّراً خلال الحرب والمجاعات التي تمرّ بها المنطقة، وأضاف أن المدينة تُعاني من انعدام تامّ للاحتياجات الصحية الخاصة بالنساء، خاصة في فترات الحمل والولادة: «لا توجد فوط صحية، ولا الڤيتامينات التي من المفترض أن تتناولها النساء خلال فترة الحمل، وهذا يعرّضهن لمضاعفات خطيرة».

وأشار المصدر إلى تردّي الوضع الغذائي في المدينة، إذ يعتمد المواطنون على «العيش واللوبيا». ويواصل: «الخضروات والفواكه اختفت تماماً من كادوقلي، وهذا النقص أدّى إلى تفشّي حالات نقص الوزن عند الولادة، حيث يُولد كثير من الأطفال بأوزان أقل من 2.5 كيلوغرام، وأسهم كذلك في ارتفاع وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية داخل مستشفى الأطفال بكادقلي».

وتحدّثت موظفة بمستشفى كادقلي، عن العبء النفسي والاجتماعي الكبير الذي تتحمّله النساء في ظل غياب أزواجهن الذين انخرط بعضهم في الجيش أو قوات الدعم السريع أو الحركة الشعبية. وقالت: «النساء أصبحن مسؤولات عن كل شيء: المعيشة، والطعام، والرعاية».

متحدثة إلى «أتر»، تقول إحدى المواطنات اللائي قُدن الحملة الاحتجاجية – وفضّلت عدم ذكر اسمها – إن الغرض الأساسي من تلك الحملة هو المطالبة بحقهن الأصيل في الغذاء والدواء، وليس لإثارة الفوضى كما تزعم حكومة الولاية. وأضافت أنهن قد اكتفين من الحرب، بعد سنتين كبّدتهن خسائر جمة لا داعي لها من الأساس. لكن، ولأن الوضع أصبح على حافة الانفجار، لم يرتضين الصمت وأولادهن يموتون جوعاً ومرضاً. وعلمت «أتر»، أنه جرى الإفراج عن النساء المعتقلات، بينما تظل الأخبار عن المعتقلين الجدد غير معلومة.
في كادُقلي لم تعد الذُّرة محض طعام، إنما تحوَّلَت إلى رمز لأزمة طاحنة، وعنوان للذلّ اليومي، ففي الوقت الذي تجاوز فيه سعر ملوة الذرة 30 ألف جنيه في السوق، بات كثيرٌ من الأهالي يتحاشون شراءها بهذا السعر الخيالي، ويتوجّهون بدلاً من ذلك إلى صفوف طويلة من أجل الحصول على الذرة المدعومة التي وفّرتها القوات الأمنية بسعر 15 ألف جنيه، ثم ارتفعت إلى 20 ألفاً في 18 يوليو الجاري.

في صفّ الذرة يقضي الناس أكثر من 5 ساعات متواصلة تحت الشمس الحارقة، بوجوه منهكة وأجساد تتهالك من الجوع والتعب، منهم نساء يحملن أطفالاً، ورجال مسنّون يستندون إلى العصيّ، وشباب بأعين قلقة.

وفي 17 يوليو، كانت إحدى الطالبات، وتُدعى امتثال أسامة (16 سنة) تقف هناك، وحاولت أن توثّق المشهد بعدسة الهاتف، لكن ذلك كان كافياً لاعتقالها بعنف واقتيادها بالقوة أمام مرأى الناس المتجمهرين، من قِبَلِ ثلاثة أفراد من الأجهزة الأمنية.

في حديثها لـ«أتَـر»، تقول «س.ع»، إحدى ناشطات غرفة طوارئ كادقلي، إنّ الوضع الأمني يعيق حركتهم في تقديم المساعدات للمواطنين المصابين، مع عدم توفر الأدوية. كما أنّ أجهزة أمن الولاية تشنّ حملات واسعة من الاعتقالات بين المواطنين الشباب والناشطين على وجه الخصوص، تطبعها اتهامات بالتخابر والتعاون مع قوات الدعم السريع والحركة الشعبية، وتُشدَّد الرقابة على الجميع.

وبسبب الحصار على المدينة، وانقطاع البضائع القادمة من الدلنج والأبيض، إضافة إلى توقّف وصول السلع من سوق النعام، أصبح السكّان يعتمدون على السلع التي يهرّبها تجّار من مضارب قبيلة الحَمَر من شمال وغرب كردفان، وتصل إلى 60 عربة تكتك شهرياً.

ورغم أن قوات الفرقة استطاعت أن تستردّ الطريق القومي الذي يربط كادُقلي بالدلنج في 28 يونيو الماضي، إلا أن الدلنج نفسها تعاني من أزمة وانعدام للسلع الأساسية بسبب قطع الطريق إلى الأبيّض الذي تتمركز فيه قوات الدعم السريع. وما فاقم الوضع سوءاً، إيقاف 30 منظمة وطنية لأنشطتها الإنسانية، بحسب قرار السُّلطات، إضافة إلى ثلاث منظمات أجنبية من ضمنها المجلس النرويجي للاجئين، ما ترَك فراغاً هائلاً في تقديم الدعم والخدمات الأساسية للمتضرّرين.

ومن جهة أخرى، يستغلّ التجّار المواطنين في كادُقلي في الحصول على الكاش. ويصل سعر الخصم إلى 30%، ويُلزمونهم بشراء السلع بربع المبلغ المحوّل.

نقلاً عن أتر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى