رأي

عودة (بارا) جسارة جيشها وطعامة ليمونها

موطئ قلم

عقيد بحري ركن (م)

اسامة محمد عبدالرحيم 

واصل جيش السودان مسيرة النصر والمجد، وهو يستعيد ظهر أمس مدينة بارا بشمال كردفان، ناثرًا الفرح في جموع الشعب السوداني. مسيرةٌ مهرها الأنفس والدماء، وزادها التضحية والفداء، وما كان ذلك غريبًا على جيشٍ عُرف بالجسارة والإقدام، فاستعاد مدينة بارا المسلوبة الجريحة، لتعود إلى حضن الوطن وإلى أمان الجيش.

وفي سِفر النصر الممتد الذي يخطّه الجيش السوداني بدماء أبنائه وتضحيات رجاله، تشرق بارا اليوم من جديد حرة ابية عصية على التمرد و التآمر و الخيانة. إن استعادة مدينة بارا ليست حدثًا عابرًا في جغرافيا الحرب و يومياتها، بل هي علامة فارقة في مسيرة الصمود والفداء، وموطئ قدمٍ جديد على طريق الانتصار الشامل. فكما روّت دماء الشهداء تربة جبل موية شرق الجزيرة و غرب سنار، ها هي بارا تكتب فصلًا آخر من ملحمة التحرير، مؤكدة أن إرادة الجيش لا تلين، وأن عزيمته لا تنكسر، وأن الوطن باقٍ ما بقيت في ساحاته أقدام المقاتلين.

تقع بارا على مسافة تقارب 317 كيلومترًا من الخرطوم، و63 كيلومترًا من الأبيض، لتكون بمثابة سُرّة غرب السودان، إن لم تكن سُرّة البلاد كلها. هي نقطة التقاء الطرق و المواصلات، وملتقى السحنات والقبائل، وفضاء للتجارة والزراعة، ومركز للحياة الاجتماعية. وقد اشتهرت بكرمها وثرائها الزراعي، حتى تغنّى بها الفن السوداني، فصار “ليمون بارا “رمزًا وذاكرةً و نغمًا في وجدان الشعب.

بارا ليست مجرد مدينة في غرب السودان، بل هي صورة مصغّرة للوطن كله؛ ففيها تنعكس التعددية العرقية والثقافية والاجتماعية للسودان، ما جعلها مركزًا قوميًّا ووطنيًّا تجاريًا واجتماعيًا.

وللحدث دلالاته وأهميته؛ إن استعادة بارا تُعد انتصارًا نوعيًا بكل المقاييس؛ فهي أول مدينة كبيرة تُستعاد بعد طول غياب عن تحرير المدن واستعادتها. وهي بذلك تُعلن بداية مرحلة جديدة من المعركة:

فهي مفتاح انتصار الجيش تجاه غرب البلاد، وبوابة استعادة كل ما وراءها من مدن وقرى.

وهي مركز ثقل استراتيجي على طريق أمدرمان – بارا، الذي يربط وسط السودان وشماله وشرقه بغربه وحتى حدوده الغربية.

وهي سقوطٌ لأول “أحجار الدومينو” في هذه الاتجاه من المدن و المواقع والتي ستتتابع لتسقط معها بقية المناطق المحتلة.

إن رجوع بارا إلى حضن الجيش يعني قطع خطوط إمداد العدو من ناحية وسط السودان، و بالمقابل هي وصل لخطوط مواصلات الجيش  من وسط البلاد، وهي زيادة لمديات وأقطار ودوائر أحزمة الأمان لمركز السودان، وحصر فلول التمرد وذيوله ودفعها لأضيق المواقع غربًا. ويعني أيضًا فتح مسارات جديدة للجيش، وتوسيع خياراته، بما يُحَسِّن تنفس مدينة  الأبيض ويمهّد الطريق الى المدن تواليًا و حتى الفاشر غربًا، حيث المعركة الكبرى التي ستطوي صفحة التمرد  و للأبد باذن الله تعالى.

وليس ذلك فحسب، بل إن استعادة بارا تعادل في رمزيتها العسكرية والسياسية استعادة جبل موية بشرق الجزيرة و غرب سنار، ومناطق غرب النيل الأبيض، والتي كانت رمانة استعادة الجيش لكل تلك المناطق، وبداية انهيار مليشيا التمرد هناك. واليوم، كما انهار التمرد بتلك البقاع و اصبح اثرًا بعد عين، فإن استعادة بارا تُعد مقدمة لانهياره في الغرب.

و من دلالات هذا النصر، اثبات دور القيادة و الارادة الوطنية للجيش، هذا النصر لم يكن وليد المصادفة، بل جاء ثمرة إصرار وعزيمة وإرادة من القيادة السياسية  والعسكرية العليا على القيام بعمل نوعي وكبير تجاه دك حصون مليشيا التمرد وسحقها.

فقد قامت القيادة العامة للجيش بالدفع بأحد نواب رئيس الأركان برتبة الفريق، هو الفريق الركن مجدي، للإشراف على التخطيط والتحضير للعمليات منذ أشهر، والذي ظل و لا يزال متواجدًا بالمنطقة إلى جانب القوات.

كما قامت القيادة السياسية/العسكرية العليا بدفع أحد نواب القائد العام وعضو مجلس السيادة من العسكريين، هو الفريق أول ركن شمس الدين الكباشي، الذي وصل المنطقة للمراجعة والمتابعة ووضع اللمسات الأخيرة لانطلاق مرحلة جديدة من العمليات العسكرية. وربما كانت باكورة هذه المرحلة وفاتحة ثمارها و نتاج جهدها هي استعادة مدينة بارا، وكان لوجوده أثر كبير ودافع معنوي وفكري للقوات.

إن هذا التلاقي بين القيادة السياسية والعسكرية، في رؤية واحدة وإرادة موحدة، عزّز من قدرة الجيش على تنفيذ خططه باحترافية ومهنية عالية، وقدّم للعالم درسًا في التخطيط الاستراتيجي والصرامة الوطنية.

إن رجوع بارا و تحريرها؛ يحمل في طياته جملة من النتائج والمعاني العميقة:

يعني اهتمام القيادة وعزمها على هزيمة التمرد بالغرب.

ويعني إعادة تقدير الموقف والتقييم والقدرة على إدارة العمليات.

يعني تنفيذ ما خُطّط له باحترافية ومهنية عالية.

يعني قطع خطوط المواصلات للعدو، ووصل خطوط المواصلات للجيش.

يعني زيادة رقعة انتشار و سيطرة الجيش و تمدده غربًا، وحصر العدو ودفعه للتراجع والانزواء تجاه الحدود البعيدة.

يعني زيادة المسارات والخيارات وتعدد المقتربات نحو كل المدن الكبرى وحتى الفاشر.و لعل الطريق إلى الفاشر يبدأ من بارا غربًا.

كما يعني هدم منصات إطلاق المسيرات من هذه المنطقة و بالتالي خسارة مليشيا التمرد لمواقع متقدمة كان يستخدمها لاستهداف الجيش و حتى المناطق الآمنة.

ويعني بداية سقوط أحجار وسلاسل الدومينو، وانفراط عقد المواقع التي كانت بيد العدو وكذلك القوات المعادية.

إن عودة بارا هي إعلان بأن الجيش أعاد تقييم الموقف ورتّب أوراقه بدقة، وأنه ماضٍ نحو مرحلة جديدة من توسيع الخيارات وضرب العدو في عمقه. ومن بارا يبدأ الطريق إلى الفاشر، ومن بارا تبدأ مرحلة انهيار مشروع التمرد في الغرب، تمامًا كما بدأ انهياره من جبل موية في الشرق.

إن استعادة بارا ليست مجرد انتصار عسكري، بل هي انتصار للروح الوطنية، وللذاكرة الشعبية، ولليمون الذي تغنّى به الناس، وللرمزية التي جعلت من هذه المدينة صورة مصغّرة للسودان المتنوع. عودة بارا جسارة جيشها، وكرامة أبنائها، ورسالة بأن الجيش ماضٍ في مسيرة النصر حتى يعود كل شبرٍ للوطن.

بارا اليوم ليست مجرد مدينة تحررت، بل هي بداية بشارة نهاية التمرد، وبوابة الفجر الجديد لمرحلة اكثر اشراقًا. إنها بحق: عودة بارا… “جسارة جيشها وطعامة ليمونها”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى