عمرو منير دهب يكتب: لعن الله بيل غيتس

nasdahab@gmail.com

لم أستطع مقاومة إغراء النصائح التقليدية عندما سألني قريبي في أعقاب إتمامه لامتحانات الشهادة الثانوية منذ سنوات عن أنسب فروع الهندسة للالتحاق به فعاجلته بالديباجة الشهيرة: “إن حاضر أسواق العمل ومستقبلها في العالم كله يرجّحان الالتحاق بهندسة الإلكترونيات أو هندسة الاتصالات”، واستخفّتني حماسة الاستنصاح فلم أتمهّل لأقرأ تعابير الفتى المسكين بـُـعيـدَ إفراغ الجزء الأول من محتوى النصيحة فسارعت إلى تكملة الديباجة: “… فمع كل يوم هناك جديد مثير في عوالم الإلكترونيات والاتصالات”.

لكن الفتى اليافع حينها كان شجاعاً في بساطة وهدوء بحيث ردّ علىّ مباشرة: “ولكني لا أحب أن أواجه تحدياً جديداً كل يوم”، وكان ما تعلّمته من ذلك الردّ وما أحاط به بليغاً بقدر الدهشة التي تملّكتني من قريبي ذاك وهو يختصر بهدوء في كلمات بسيطة مباشرة ما اعتبرته أنا في جزء جوهري من تجربتي الشخصية فلسفة وجود نذرتُ لها قسماً عظيماً من وقتي وجهدي وأفكاري وخضت من أجلها معارك مضنية في مواجهة الناس النمطيّين والمجتمع التقليدي، وربما طواحين الهواء.

وإذ أدين بالفضل لتلك المعارك، أيّاً ما كانت دوافعها وبغض الطرف عمّا أفضتْ إليه، لـِـما نثرَتــْه على دروب حياتي من أفكار زانتها – كما يروقني أن أحسب – وقِـيـَـم رسّـخت خطواتي عليها، فإن ما تأكد لي مع إجابة قريبي اليافع ذاك هو أن لا سبيل أنجع لمقاومة أفكار الآخرين المتسلطة سوى رفضها في هدوء ثم الإصرار – في حال مواصلة تسلّط الآخرين وأفكارهم – على الرفض والهدوء معاً، خاصة إذا كانت بُـغية الواحد ومُـنـْـيـتـه حياة هانئة لا تعكّر صفوها الكتابة وما تستلزمه من صبيانية تـَـعـَـقــُّـب كلّ واردة وشاردة في الحياة وإيساعها تعقيباً وتعليقاً بحيث تكون الكلمة الأخيرة للكاتب على حساب الحياة، كما يحب معشر الكُــتــّـاب أن يتوهّموا.

أعجب حين يُـطمـْـئن عشاق الكِتاب، خاصة من الكُـتــّـاب، أنفسهم بأن ثورة الوسائط المتعددة لن تزحزح مكانة الكِتاب التقليدي. يجب أن يكون الفرق جلـيّـاً بين الأمنية وقراءة المستقبل وفق معطيات الحاضر، وإن كنت أحسب أن تجلّيات وبركات الوسائط المتعددة والكتاب الإلكتروني تحديداً لم تعد تندرج فيما يستفاد من قراءة المستقبل بل هي مما صار يؤخذ من قراءة الحاضر الذي دوننا وفق معطيات ما بات من الماضي وإن كان قريباً.

لا أنكر أنني – لأسباب وميول نفسية – أقف في مقدمة الحانقين على كل تقنية حديثة خاصة عندما تتعدّى تلك التقنية على منطقة تقليدية مبجّلة بالنسبة لي كالكِتاب والكتابة، كما لا أنكر أنني – لنتائج عملية بحتة – أقف في مقدمة المستفيدين من التقنية الحديثة نفسها وهي تتعدّى على ذات المنطقة التقليدية المبجّلة. إنني ببساطة أفرّق بين أمنية أثيرة باتت مهدَّدة وبين التهديد الذي من شأن الاستجابة له المحافظةُ على جوهر الأمنية الأثيرة، ولا مناص من الإقرار بأن الصورة القديمة الأثيرة للكتابة والقراءة قد طالها من التغيير أعظمُه وبات أفضل حظوظها فيما يبدو الصمود أمام تحدّي الإحلال.

كما لا أنكر أنني من مدمني رائحة الكتب والتجوّل في دهاليز المكتبات (غير الرقمية) بدافع شمّ أوراق الكتب قديمها وحديثها ثم الانقضاض على ما تيسّر منها – استعارة أو شراءً – بالقراءة.

بعض الروائيين يبرّر إحجامه عن كتابة الدراما التلفزيونية بشيء من ذلك القبيل، فهو يحب أن يشمّ رائحة إبداعه منبعثة من ثنايا الكتب فقط وليس على شاشات التلفزيون. ولعل بعض صور التقاعس عن مواكبة الثورات التكنولوجية يتخفى وراء أمثال ذلك التبرير، فالروائي الذي تكتسح رواياته المطبوعة الأسواق ليس من الضروري أن يملك أدوات الكتابة لدراما التلفزيون أو السينما بالقدر نفسه، ولكن كم منـّا يملك جراءة الاعتراف بالقصور والتقصير إذا كانت البدائل متاحة في مبررات الهوى والتشبث بعراقة الفن الأقدم؟

التغيير هو سنة الحياة التي ليس من المفترض أن تكون ممتعة في كل الأحوال، ولكنها حتمية في أغلب الأحوال، وليس أنجع في مواجهة ما هو حتمي من محاولة استساغته بدلاً من تجرّعه والتأفف عقب كل جرعة.

ظللت مدفوعاً بقــَـدَر لحوح إلى الولوج إلى عالم الرقميّات فيما يخص مهنتي التي أكسب منها قوت اليوم (واليوم الذي يليه عندما أكون محظوظاً فيسعني بعض الادّخار). وهكذا فإن ولوجي إلى ذات العالم الرقمي ككاتب – تقتصر حاجته من ذلك العالم على الإفادة بالمناولة إدخالاً وإخراجاً – كان بالغ اليسر قياساً بما ظلّ يتطلّبه القــَـدَر اللحوح مني مع مهنة كسب العيش التي تستدعي بعض أشكال الغوص في تفاصيل المعالجات الرقمية، تلك التي أكتفي بالإفادة من طرفـيّـاتها – إدخالاً وإخراجاً – ككاتب.

ورغم أنني اجترحت ذنوب الحواسب الآلية والوسائط المتعددة فيما يخص الكتابة مبكّراً فإنني – بوصفي من أنصار الجمود قلباً ودعاة التقدّم قالباً – أسعى لاشعورياً باستمرار إلى ذنب رقمي واحد على الأقل أُبقي نفسي مبرّأة منه. هذا ما قلته لأخي محمد عندما نفحني مؤخراً موقعاً إلكترونياً شخصياً على الإنترنت كهدية في مناسبة خاصة جداً.

Exit mobile version