nasdahab@gmail.com
لشخصية الكاتب – بمنأى عن الاعتبارات الفنية وليس على حسابها بالضرورة – أثر بالغ على شهرته، فقوة الشخصية (أو ضعفها في المقابل) تخلع أثرها على “قوة” شهرة الكاتب أو ضعفها. وإضافة إلى القوة والضعف في الشخصية، بالمعنى النفسي المتداول، فإن طائفة عريضة من الصفات المشكِّلة لملامح الشخصية الدقيقة تؤثر لا ريب على ذيوع الكاتب بالمقصد “النجومي” للذيوع، وكل ذلك بعيد حتى الآن عن المعايير الفنية في تقييم الكُتــَّاب وعن ذيوعهم بين الصفوة التي تستند إلى تلك المعايير في المقام الأول والأخير.
من أسباب الشهرة – في ما يلي الشخصية القوية للكاتب – الشخصيةُ واضحة المعالم أيّاً كانت تلك المعالم، فالناس تحب أن تصبّ مشاهيرها في قوالب، والأدق في وصف الحالة أنّ لدى الناس قوالب جاهزة تختار من بينها ما يلائم من يلقى عندها حظوة وتحشره كما هو – دون الحاجة إلى صهره لإعادة تشكيله – في القالب، والمعالم الواضحة للشخصية تعين على اختيار القالب بسهولة، أما الشخصية القوية فتنحشر من تلقاء نفسها في أشهر القوالب وتريح المعجبين من مهمة البحث والتنقيب في الخيارات التي يزخر بها مشروع القولبة المصاحب للشهرة.
إذا كانت تلك هي ردود أفعال المعجبين تجاه من يحبِّون أن يصطفوهم من نجوم الكتابة فهل ردود أفعال الكُتاب أنفسهم تخلو من الغرابة، ومن قبلُ الاستقامة؟ “لا” عالية ومدوِّية هي الإجابة، فالكاتب صاحب الشخصية القوية لا يستنكف أن يستخدم تلك الشخصية في تثبيت نجوميته بشتى السبل، و”شتى السبل” إشارة موجزة – بإجمال الحديث – إلى أن الكاتب قويّ الشخصية لن يتوقف طويلاً عند الأسئلة التي تــُـعنى بجوهر موهبته وقيمة أعماله عندما يتعلّق الأمر بصراع الانتشار الشرس، وقد ينطلق الكاتب في ذلك من دوافع بريئة كأحقية كل إنسان في أن يرى نفسه الأفضل فيصارع ليقتنص الأفضل من المكافآت لنفسه بالتالي، وقد يتذرّع بأن سباق الشهرة لا تقيّده المعايير الفنية في الإجادة بصورة مطلقة، فليس من الحكمة إذن – استرسالاً لتلك النتيجة من ذلك الكاتب – أن يتأخر كاتب بإمكانه أن يغدو مشهوراً ليفسح الطريق أمام آخر أقلّ استعداداً للشهرة لمجرد أن موهبة الأخير أثمن وإنتاجه أنفس.
ولكن الواقع أن الكاتب البارع في سباق الشهرة (مع ضعف في الموهبة، ولو نسبياً) يتغاضى مهما تبلغ المسوِّغات من الوجاهة عن تقريع ضمير لا يكف عن الهمس في أذنيه بأنه انتزع مكاناً كان أولى به غيره، فالمسوِّغات في النهاية أشبه بحيثـيـّات دفاع محامٍ ماكر يُخرج موكِّلَه من وراء قضبان كان جديراً بالأخير أن يكون حبيسها.
والواقع يشهد بأن “صراع” الشهرة (الأدق في التعبير عن الحال من “سباقها”) لا يعير أصوات الضمير اعتباراً ذا بال كذلك الذي يعيره لأصوات “الأنا”، وعليه فإن ذرائعية الكُتــّاب وأنصارهم من القائمين على سباقات/صراعات الشهرة لا حدود لها إلّا بقدر ما يتــّـسع صدر الذرائعية نفسها للمبادئ والقِيَم، وكلنا يعلم المساحة المخصصة لتلك المُثل في ذلك الصدر.
غير أن ما يعنينا في هذا الحديث تحديداً هو القوة بوصفها العنصر الأكثر تأثيراً على شهرة الكاتب وليست عوامل التأثير الأخرى على اختلافها بعيداً عن الموهبة والقيمة الفنية، وعليه فإن قوة صوت الكاتب (حنجرته، ليس إلّا) مما يعين على تأكيد تلك الشهرة. وغني عن القول – سوى من باب التذكير – أننا نتفق على أن حدّاً أدنى من الموهبة والقيمة الفنية يجب توافره للمشاركة في السباق/الصراع ابتداءً.
وصوت الكاتب كعامل مؤثر على شهرته لا نعني به قوة عضلات حباله (الصوت) فحسب، وإنما خامة تلك الحبال بما يفرز صوتاً مؤثراً قادراً على الإقناع في اللقاءات والمنازلات الفكرية بمنأى عن قوة الحجة التي ينقلها ذلك الصوت.
قوة الشخصية هي محصلة سمات من قبيل الثقة والنظرة الجريئة والصوت المقتحم والقدرة على إقامة العلاقات المؤثرة في المحيط موضع المنافسة والإفادة الصارخة من تلك العلاقات، إضافة إلى الأهم وهو إرهاب المنافسين – من الأعلى موهبة وقيمة أو الأدنى، لا فرق – تخويفاً من الاقتراب مما يُظن حقوقاً خاصة لا يصح اقتسامها أو حتى المساس بها، وليست تلك الحقوق المتوهَّمة سوى كل لفتة أو كلمة من شأنها أن تسرق عين الكاميرا أو أذن الميكرفون من الكاتب مفتول العضلات.
وبرغم كل ما تقدّم، فإن الأقرب إلى أن يكون من بدهيّات الوجود أن الناس ينطلقون من فطرة القوة والاستباق بالتعدِّي من أجل كسب مزيد من الحقوق وليس من تـــَـكَـلُّف التهذيبِ والصبر على المجادلة بالمنطق الحسَن انتظاراً لإفحام الخصوم بسيف الحياء.
عضلات الكاتب ليست إذن بِدعاً بين عضلات المبدعين في سائر ضروب الإبداع من الفن والحياة، غير أن الناس تخال الكُــتــّــاب أكثر حكمة وجلالاً وتنكر عليهم اللجوء إلى القوة لتأكيد الشهرة أو حتى تأكيد الوجود في حقول الكتابة. ومثلما أن استخدام الكاتب لعضلاته – بالمعنى المفصّل فيما مضى – مما يـُـنكِره الناس بوصفه عملاً يليق بالملاكمين والمصارعين وأبطال التايكوندو والسومو ومثلها من فنون القتال دون غيرها من غذاء الروح والعقل، فإن الكاتب معذور على الطرف الآخر من المحاكمة موضوع الجدال على اعتباره بشراً من دم وعضلات، وهي حجة تشفع له تماماً إلّا إذا تحامق وأبى لنفسه سوى منزلة القدِّيسين في نفوس معجبيه من الأبرياء.