nasdahab@gmail.com
نعم حتى الأدب، بل حتى النقد، تطاله تهمة الانصياع لسنّة الموضة في الحياة على غير ما سينكر أغلب المهتمّين بالأدب على اختلاف مواقعهم، والأرجح أنهم لن يكتفوا بالإنكار وحسب وإنما الاستنكار، ثم الدهشة، انتهاءً إلى رفض مجرد إمكانية أن تطرق الفكرة خيالهم.
المشكلة في استيعاب فكرة الموضة مع المجالات ذات المقام الرفيع كالأدب ونقده أن الموضة ارتبطت في أذهاننا على سبيل المثال المحدَّد بمجال كعروض الأزياء، حتى قبل أن ترتبط بالأزياء نفسها. وعروض الأزياء من المجالات الهامشية جداً في حياة العربي والشرقي عموماً، وإن تكن تحظى باهتمام أكبر من قِبل المرأة العربية والشرقية. عروض الأزياء في حياة العرب والشرق بصفة عامة تبدو من الترف بحيث ينشغل عنها الناس انصرافاً إلى ما هو أكثر جوهرية من شؤون عيشهم بصفة عامة، ولقمة عيشهم بصفة أكثر خصوصية وإلحاحاً.
للمحافظة على كبرياء الأدب ونقده وغيرهما من شؤون الفكر التي من حق أصحابها أن ينظروا إليها بقدر أرفع من التبجيل، يعمد أولئك المهتمّون بالأدب والفكر إلى وصف تبدُّل المزاج العام في تذوُّق الأدب وتناول الأمور الفكرية بـ”دورة الحياة”، ولا اعتراض لنا على هذا الوصف إلّا حين يعمد مروّجوه إلى الإصرار على أنه منزلة أرفع شأناً من الموضة، فما دورة الحياة في تقديرنا سوى المرداف الأكثر فخامة (في إيحاءاته ليس إلا) للموضة.
لا فترة زمنية متفقاً عليها في أيٍّ من المجالات سواءٌ لدورة الحياة أو لمرادفتها (الأقل فخامة) الموضة، يعتمد الأمر تماماً على سأم الناس من العادة الأدبية أو الفكرية أو “الأزيائية”، وإن يكن من الحكمة الإقرار بأن للشعور بالملل هذا مؤثراتٍ عديدة ومتداخلة أهمها ضعف البديل المقترح، ومن قبلُ قوة الخيار المتاح أصلاً، خاصة في لهيب مفهوم الاحتكار وأفضليته في تأكيد سطوة الحضور والانتشار.
في ردّه على مداخلة جهاد فاضل: “يتحدثون في فرنسا الآن (قبل ثلاثة عقود) عما بعد البنيوية…)، وذلك ضمن كتاب “أسئلة النقد”، يقول جبرا إبراهيم جبرا: “ما بعد البنيوية، كل شيء أصبح الآن ما بعد… كلها كانت في الواقع طفرات وأصبح التنظير النقدي أشبه لسوء الحظ بالصرعات. وكما قلت إن هذه الصرعات تنتمي إلى أصحابها الأفراد، وليس إلى مدارس تُعمَّم لأنها تكشف عن خوافٍ فكرية أو نفسية أو أدبية أو ذهنية تجعل للإنسان فهماً أكبر لما يبدعه كل يوم”.
ذلك إقرار ثمين من ناقد رفيع المنزلة بأن النقد الأدبي يمكن أن يغدو صرعة في زمن ما، لكنني لا أحب أن أتلقف الهدايا الثمينة من ذلك القبيل لأعدو بها في الميادين الفكرية إثباتاً لصحة دعاواي في هذا المقام وذاك. هنا بإمكاني التشبث بتصريح جبرا إبراهيم جبر على أنه دليل دامغ على الموضة التي تكتسح كل ميادين الحياة دون استثناء، ولكن الناقد الكبير كان كما هو واضح يتأفف من الصرعة التي اعترت مجال التنظير النقدي حينها، أكثر من كونه يقرّ بأن الصرعة هي سنّة في سوق الأدب والنقد على مرّ العصور، وهو من قبل على الأرجح يجلّ الأدب والنقد عن أن يوصف المجال الذي يضمّهما بالسوق.
ولكن في المقابل لا يمكن تجاوز الاحتفاء بتصريح جبرا الشجاع ذاك بخصوص الصرعات التي اجتاحت التنظير النقدي حينها، على اعتبار أن في ذلك التصريح إشارة ضمنية إلى أن أسواق الأدب والفكر ليست بمنأى من أن تجتاحها الموضة، وبالتجاسر على إضافة أنها “أسواق” ابتداءً مهما يبد ذلك الوصف مزعجاً للأدباء والنقاد الطوباويين.
وقبل النقد فإن الجنس الأدبي نفسه يخضع لمفهوم وسطوة الموضة، هذا باعتبار أن الحكم حول أيهما يسبق الآخر (الأدب أم النقد؟) مسألة تظلّ محل نظر. عند العرب ظل الشعر الغنائي بمثابة الموضة التي استبدت بأسواق الأدب العربي على حساب غيره من فنون الكتابة بما كاد يعصف بفكرة الموضة نفسها، فمن العسير تصديق أن بإمكان موضة ما أن تظل متسيِّدة لأربعة عشر قرناً من عمر الزمان كما حدث بالفعل مع الشعر الغنائي العربي.
ظلّ شعرنا الغنائي إذن في خاطر كل من سبق من العرب على مرّ العصور قدراً أدبياً لا مناص من تسيّده، وكانت فنون الكتابة الأخرى تطلّ بين الحين والحين على استحياء كأنها تستأذن الشعر الغنائي التقليدي في الإطلالة، ولا نخصّ هنا المقامات والموشحات الأندلسية فحسب وإنما على سبيل المثال، ونزيد عليها بإضافة الفنون التي جُمعت تحت مسمّى “النثر” وظلّت تتجوّل كالحاشية في بلاط مملكة الشعر.
وعندما برزت المسرحية والقصة والرواية حديثاً كان من اليسير لمحبي الأدب ومحترفيه من الأدباء والنقاد أن ينظروا إلى ذلك البروز على أنه بداية مزاحمة جادة لمنافسين جدد للشعر المتوّج ملكاً للأدب العربي على مرّ القرون، ولم يكن ثمة مجال بحال لاعتبار ذلك البروز صرعة أدبية عابرة. بل حتى بعدما تأكد حضور تلك الفنون الكتابية – الجديدة نسبياً على الأدب العربي في شكلها الحديث – في مشهد الإبداع العربي المكتوب لم يكن مستساغاً النظر إليها على أنها الصرعة الأدبية الجديدة، بل كان من الأيسر أن يتم الترويج لها بوصفها القدَر الذي اجتاح الأدب العربي تمهيداً لأن يُتوّج أحدُها ملكاً يستبد بالبلاط الأدبي للعرب.
غير أن سيرة فنون الكتابة الأدبية على المستوى العربي ظلت بعدها على حال من التذبذب تسوِّغ القول باستجابتها لمفهوم الصرعات الأدبية مما هو مستورد من الغرب وليس محليّ الصنع في أغلب الحالات، إنْ لم يكن جميعها. وفوق ذلك كانت الاستجابة لاستيراد الصرعة الأدبية أو الفكرية من الغرب متأخرة – على وجه العموم – عقداً كاملاً من الزمان.
ولكن برغم كل ما سبق ظل عشاق فنون الكتابة العربية – سواءٌ المتلقون أم المبدعون من الأدباء والنقاد – عُصاة على تقبُّل فكرة أن يخضع الأدب بجلال قدره ورفيع هامته لفكرة الموضة، ولا نية لنا لإقناع أولئك السادرين في عشقهم لمقام الأدب السامي بأكثر من التنبيه على أننا لسنا بصدد المقارنة المطلقة بين فنون الأدب وعروض الأزياء، وإنما التأكيد على أن كليهما – على سبيل المثال – يخضع لسلطان الموضة الذي يستحق انتباهاً لخطورة تأثيره أكثر مما يحظى به، وربما على عكس ما يحظى به بتعبير أكثر دقة.