تقارير

عمرو منير دهب يكتب.. زمن غيرك

nasdahab@gmail.com

قبل سنوات، وفي إطار الاستجابة للهواجس المتزايدة للاطمئنان على الصحة مع التقدّم في العمر بادرني الطبيب بعد انتهائه من فحص عام ومراجعة بضعة تحاليل مختبرية: “لا توجد مشكلة، ليس ثمة ما يدعو إلى القلق فأنت لا تزال إلى حدّ ما صغيراً”، و”صغير” التي قالها الطبيب كانت تعني “لست عجوزاً” في ذلك المقام، دون مزايدات منِّي في ادّعاء الشباب حتى إذا كانت القصة قد جرت قبل بضعة أعوام، كما أن قوله: “لا توجد مشكلة” كان مقصوداً به بشكل دقيق “لا توجد مشكلة غير متوقعة”، أي أن ما تلحظه على نفسك من تغيرات جسدية طبيعي بالقياس إلى العمر الذي تقدّم حتى إذا لم يدخل بعدُ حيِّز الشيخوخة.

“الصِّغر” – الذي نستخدمه في العامية مرادفاً للشباب – إنجاز طالما حلمتُ بالمحافظة عليه، ولكن لا شيء لا يطيق الانتظار مثلُ الزمان.

غير أن مقياس الشباب لا يخلو من النسبية في الواقع، فسنّ الزواج يتغيّر من جيل إلى جيل ومن مجتمع إلى آخر حتى تُحسب لدى بعض الثقافات في عداد العوانس من ترى نفسها صغيرة على الزواج في ثقافة أخرى. كما أن من كان يُنظر إليه بوصفه رجلاً لا يتحمّل مسؤولية أسرة فحسب وإنما ينهض بأعباء مجتمع بأسْره بات في أجيال لاحقة لدى المجتمع نفسه ينتظر النصح من ذويه بشأن إكمال دراساته العليا وهو يتلقّى العون المادّي منهم كاملاً.

الأطرف ما يتغيّر من اعتبارات حساب الشباب من سَنة إلى أخرى، فبعض جوائز الإبداع يقف عند الثلاثين أو الخامسة والثلاثين شرطاً لأعمار المتقدمين للجائزة بأعمالهم من “الشباب”، وعندما يُراد للجائزة أن تدخلها أعمال أكثر نضجاً يتوسّع القائمون عليها في تعريف “الشباب” إلى الأربعين وأحياناً الخامسة والأربعين من العمر. وقد تابعت لقاءً تلفزيونياً مع كاتب على أعتاب الستين يتحدّث في الشأن نفسه مشيراً إلى أنه لم يعد من الغريب النظر إلى الخمسين على أنها ريعان الشباب، فأدخل الرجل نفسه بذلك مطمئنّاً في زمرة الشباب ممّن تجاوزوا ريعانه بقليل.

بالعودة إلى طبيبي ذاك فإن قوله “لا تزال صغيراً” يقابله في العامية “لسّه صغير” المتكرِّرة على سبيل المجاملة من الأكبر سنّاً دون أن يتطلّب الأمر فحوصات طبية أو نتائج مختبرية لمُوَسوِس مهووس بتحرِّي ما تبقّى من علامات الشباب عن طريق أدلّة علمية موثقة، برغم أن التقييم لن يسلم من التقديرات النسبية حتى في ضوء قراءة النتائج المختبرية كما رأينا في بداية هذا الحديث.

بعد “لسّه صغير” (إنعاماً بالدلال ممّن هم في مقام الآباء والأمهات) تأتي “ما كبرت”، إشارةً مهذبة ومتوارية إلى أن علامات الكبر قد ظهرت على جسدك بوضوح، ثم “ما كبرت شديد”، مواصلةً للتهذيب في الإشارة إلى استفحال الكبر وعلاماته عليك.

وإذا كان الاحتفال بعيد ميلادك من دواعي سرورك وأنت صغير فسيغدو على الأرجح من دواعي حرجك وأنت على أعتاب البلوغ أو حتى قبلها بقليل، فإذا صرت إلى الشباب غدا عيد الميلاد مجاملة لطيفة ممن حولك لا غضاضة منها مع اختلاف طبيعة الاحتفال، حتى إذا صرت مستحقاً للقب “عجوز” أمسى عيد الميلاد مزحة غير باعثة على الضحك إذا بالغ المخلصون من حولك في الإلحاح بالسؤال على هامش الاحتفال الرمزي عن مشاريعك المستقبلية.

ولكن مهما يبلغ العجوز من الحكمة في تقدير عمره وما يتوجّب عليه حينها من الكف عن حماقات الشباب لا يستطع التوقف عن الرغبة في أن يحيا زمن غيره من الشباب.

و”زمن غيرك” تعبير شائع في العامية العربية – على اختلاف نسخها – ليس فقط من باب الإشارة إلى تحذيرك كعجوز من الخوض في جهالات الشباب وإنما على سبيل تثبيط همّتك من خوض الحياة جملةً وتفصيلاً استعداداً للرحيل (الذي سيغدو وشيكاً لو أنك استجبت للنصيحة على علّاتها، وما أكثرها).

ولكن الانتباه إلى “زمن غيرك” لا يخلو من فوائد مُنجية من الهوان. كنت أجالس فتى يصغرني ببضعة أجيال فحاولت “إذابةً للجليد” الذي بدا مستحكماً بيننا أن أباسطه الحديث ونحن نشاهد التلفزيون: “ما رأيك في هؤلاء الممثلين الجُدد؟”، فردّ عليّ مندهشاً: “أيّ ممثلين جُدد؟”، وكنت من الفطنة بحمد الله ولطفه بما يكفي لاستدراك أن مَن عددتهم “جُدداً” من الممثلين هم جيلُه الذي سينشأ على متابعته.

لم أستفد من الدرس، فذكّرت الفتى نفسه بعد أيّام في جلسة مماثلة بمشهد من مسرحية كوميدية شهيرة وانتظرت منه أن يضحك فلم يفعل، وعندما بدا عليه الاستغراب من انفعالي الزائد سألته: “ألا تتذكر المشهد؟”، وتبيّن أن الفتى لم يسمع عن المسرحية أصلاً ولا يعرف أيّاً من أبطالها الذين طوت شهرتهم آفاق زماننا.

كان ذلك منطقيّاً بحساب الأجيال، غير أنني كنت (دون أن أشعر؟) أحاول أن أعيش “زمن غيري”، الأحرى أنني كنت أحاول أن أسحب غيري من الأصغر سنّاً ليعيش زماني، والفعلتان وإن بدتا متناقضتين فإنهما بمثابة الوجهين لعملة واحدة هي تجاهل العمر الحقيقي، إما بزج نفسك في غمار الشباب أو بجرّ الشباب ليعيشوا ما انقضى من أيامك على اعتبارها الوصفة المثلى لما ينبغي أن تكون عليه الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى