تقارير

عمرو منير دهب يكتب: خلِّي الفكرة تطير

nasdahab@gmail.com

الكاتب صيّاد أفكار، هكذا يمكن أن نلخـِّص بعض أهم جوانب الوصف الوظيفي لمهنة الكتابة التي تــُـعنى بالإبداع، على اعتبار أن من الكتابات ما هو روتيني لا يـُـعنى بأكثر من النقل بداعي التسجيل. مقصدنا الآن إذن – من بين ما تضمّه تضاعيف الوصف الوظيفي لمهنة الكتابة الإبداعية – هو الأفكار الطليقة التي لم يتسن لأحد أن يقبض عليها بعد، ذلك أن القبض على أفكار الآخرين يدخل والعياذ بالله في ثنايا الوصف الوظيفي لمهنة الكـتابة التلصّصية تحديداً.

وبين الكاتب المبدع والكاتب اللص منزلة لا تخلو من الاحترام هي الكاتب الناقل، وهو الكاتب الذي ينقل أفكار الآخرين من باب التأكيد أو التعليق دون أن ينسى نسبة الفضل إلى أهله في متن الحديث أو على هوامشه وذيوله.

صيد الأفكار مهنة قاسية شأنها شأن أية مهنة تــُـعنى بالصيد، ومثلما أن هناك صيادَ أسماك ماهراً وآخر أقلّ مهارة فإن ثمة كاتباً مبدعاً وآخر أقلّ إبداعاً بحسب عِظــَــم ودسامة الأفكار المقتنَصة، ولايزال الكاتب الأقلّ إبداعاً أشرف من آخر لا يـُـحسن سوى السطو على ما في شِباك الآخرين.

كثيراً ما تكون مهمة صيد الأفكار هي الشق الأيسر في عملية الكتابة، وإذا جاز أن نعود إلى شبكة الصياد للمقابلة فإن سمكة عظيمة كثيرة اللحم طازجة لا يزال ذيلها يرقص لا تعني شيئاً لمستهلك جائع لا يعرف كيف يـُـنضِجها. القارئ في نعمة لأن مهمة إنضاج الأفكار وتقديمها جاهزة للقضم (ولا نقول للهضم) هي مهمة الكاتب، وعليه فإن شبكة عظيمة مليئة بالأفكار الغنية لا تفيد كاتباً لا يعرف كيف يُـنضج ما اصطاده من أفكار. الشق الأعسر في عملية الكتابة هو التصرّف في الأفكار وتقديمها بما يجعلها جذابة تتهافت عليها العقول كما تتداعي البطون إلى مائدة عامرة أحسن إعدادَها طبّـاخ ماهر.

أليس إذن من حق كاتب يجيد الطبخ أن يقبس من أفكار الآخرين النيئة ليعيد تقديمها بما هو أكثر جمالاً وجاذبية على موائد العقول حتى لو كانت قد قــُـدِّمت من قبل بشكل ما على ذات الموائد؟ بالرجوع إلى الأسانيد الأخلاقية فإن الإجابة هي نعم شريطة أن تــُـنسـَـب الأفكار إلى أهلها خاصة أن الفكرة النيئة لا تنفد بكثرة التداول كما هو الحال مع السمكة النيئة التي تنتهي من طبخة واحدة على أول مائدة. وبتجاوز كل ما هو أخلاقي، فلا شيء يقف في وجه كاتب محترف يعرف كيف يسوّق لأفكار غيره في ثياب قشيبة من صنعه هو بما يصرف الناس عن التساؤل عن أصل الأفكار.

وكما أن الصياد مهما تبلغ مهارته لا يمكنه أن يصطاد كل سمكة متاحة مع كل طلعة صيد، فإن الكاتب مهما يبلغ إبداعه لا يمكنه أن يقبض على كل فكرة مع كل طلعة لصيد الأفكار، سواءٌ أكانت الطلعة مع سبق الإصرار والترصّد أو لحظات إلهام مباغتة.

كان يوسف إدريس – القاصّ المصري المعروف – يتحسّر على ما يفر من قبضات خياله من أفكار، ليس لأن الأفكار المتمردة تحلّق بعيداً في الهواء بل لأنها تغوص عميقاً إلى قاع محيطه كما أفاد في التشبيه، ما يجعلنا نحتفي مجدداً بتشبيه الأفكار بالأسماك.

وكان يوسف إدريس يضيف في ذات السياق بما مفاده أنه لو تسنّى له القبض على كل ما يراوده من أفكار لملأ المكتبات وشغل روَّادها أضعاف ما فعل.

ذلك قدَر كل كاتب، أن يفرّ من قبضات خياله من الأفكار أضعاف ما يقع في شراكها. مشكلتي تحديداً مع أفكاري المتمردة ليست في كوني لا أجيد الغطس إلى قاع المحيط، فأنا أكسل من أن أفكر في ذلك، ويبدو أن أفكاري تعلم هذا جيداً لذا فإن أقصى ما تناوشني به هو أن تلحّ على خاطري ليلاً وأنا طريح الفراش أهم بالولوج إلى ملكوت النوم.

ولأنني كاتب يحب أن يداعب خيال قرّائه بما يبعث على اليقظة وليس النعاس، فإنني – على غير ما كان الحال مع القاصّ المصري الشهير – لا أترحّم على أفكاري المتواثبة ليلاً على تلك الشاكلة بل أهنأ حين أتذكّر كيف أنني تركتها تعبر في سلام إلى كاتب مولع بالسهر، وأنا أمنــِّــي عقلي بالأفكار الطازجة التي تنتظر مـَـن يستيقظ أولاً من الكُــتــَّـاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى