عمرو منير دهب يكتب: بين صياغة الوجدان وصياغة الوجود

nasdahab@gmail.com

ما لم نقله صراحة في “صراع مع الشهرة” أن بيان تــَحـَـقــُّـق الشهرة يوقــِّـع عليه في النهاية المتلقي، وفقط المتلقي، متجاوزاً بذلك جهود المبدع ومن قبل أحقية إبداعه من الوجهة الفنية البحتة بالاحتفاء. وربما يمنّ المتلقـي على المبدع بالتوقيع على بيان شهرته مبكّراً، فلا يعني ذلك سوى أن الجمهور قرّر أن يختصر طريق المجد الطويل والملتوي على مبدع بعينه لسبب واضح أو آخر خفيّ دون أن تكون في ذلك أية دلالة على أن المبدع قد فرض شهرته على الجمهور مع سبق إصراره واستبصاره.

ما يؤكد حقيقة انفراد الجمهور بالتوقيع على بيان شهرة المبدع أن ذلك الجمهور قد يقرّر دون أدنى سبب وجيه في أنظار النـُـقــّـاد أن يدير ظهره إلى مبدع استوفي سائر الشروط الفنية للإبداع الأصيل في ظاهرة لم يجد المهتـمّـون بالتمثيل فيما رأينا تعريفاً لها أفضل من “عدم القبول”، وعدم القبول المشار إليه هو عدم قبول الجمهور لا غير. ومقابلُ تلك الظاهرة هو “القبول” الذي يصرفه الجمهور “شيكاً على بياض” لمبدع قد لا يستحق تلك الصفة سوى في الاتجاه المعاكس للشروط الفنية للإبداع وإن كان أصيلاً، بمعنى أن أحداً لم يسبقه إلى التهافت على شاكلة فريدة.

وإذا كنا قد عرضنا في “صراع مع الشهرة” إلى أنواع الشهرة بشيء من التفصيل فإن ما تجاوزناه هو درجات الشهرة التي تــُـتيح للباحث في أيٍّ من أبواب المعارف والفنون أن يقسِّم المشتغلين بها إلى طبقات هي من الكثرة والتفاصيل بحيث تكاد تجعل كلَّ طبقة تـَـسـَـع مشهوراً واحداً لا غير.

أول ما يشغل طالب الشهرة من المبدعين هو درجة الشهرة لا نوعها، ثم عندما يُـضبـَـط المبدع الوقور متلبِّـساً بالعبث بإبداعه على ذلك النحو يشرع في الانصراف إلى الحديث عن الشهرة “النوعية”، وعندما يُمعن الجمهور في محاصرة المبدع “النوعي” بالإهمال ينصرف ذلك المبدع إلى الحديث عن نفسه بوصفه شهيداً للمعرفة الخالصة معتبراً الشهادة على ذلك القبيل أسمى درجات الشهرة “النوعية”.

الشهرة بعد الموت هي آخر ما يُـمنــِّـي به مبدعٌ نفسَه حتى إذا كان يدّعي أنه يسبق عصره في إدراك المفاهيم الجديدة، وهو في الحالة الأخيرة يقع في تناقض (حين يسعى إلى الشهرة مخاطباً عصره بما لا يفهمه) يحاول أن يخرج منه بادّعاء آخرَ مفادُه أنه يُحب لعصره أن يعدو بخطى لاهثة نحو المستقبل ليدرك أسرار إبداعه فيحتفي بها وبه في حياته (بدلاً من انتظار المستقبل للاحتفاء بمبدع ولّى وفي نفسه “أشياء” من الشهرة).

“كيف تجد طعم الشهرة ؟” سؤال يحاول أن يتملّص مترفو الشهرة من المبدعين من الإجابة عليه في حين لا يتردّد محدَثو النعمة ذاتها في تأكيد تلذذهم بالطعم الذي لا يُـضاهـَى مؤكدين امتنانهم العظيم للجماهير، وهو امتنان ستخبو جذوته باطّراد كلما ازدادت جذوة الشهرة ضياءً واشتعالاً بمرور الزمان، على أساس أن الإفراط في الفرحة بالشهرة والمبالغة في التعبير عن الامتنان لمن ساهم في تحقيقها أمران لا يليقان بمحترف الشهرة التي أهمُّ شروطها الوقار.

مجدّداً، لا تصدِّقنَّ مشهوراً يدّعي أن الوقار إزاء الشهرة صفته اللازمة، فتهديدٌ بسيط على سبيل المخاتلة من الشهرة بالانحسار كفيلٌ بأن يحمل أكثرَ المشهورين وقاراً على الخفة استجداءً للشهرة أن تبقى أو على التداعي حسرة على الأفول.

إذا كان فضل المبدع على المتلقي أن الأول يصوغ وجدان الأخير كما في القول المشهور عن أثر الإبداع على الناس، فإن فضل المتلقي أنه من يوقــِّـع على كل بيان للشهرة في حق المبدع ليحشره فيما يشاء من طبقات المشهورين رفعة أو ضعة. أليس في ذلك ضرب آخر من الصياغة يتعدّى الوجدان إلى الوجود؟

Exit mobile version