عمرو منير دهب يكتب: الشعوب بوصفها علامات تجارية مسجلة

nasdahab@gmail.com

رأينا تحت عنوان “اليوم أنا من هنا”، نقلاً عن كتاب “جينات عربية”، أنه: “لدى الأفراد كثيراً ما تكون الوجهة المشتهاة فرية، ليست من باب التشبّث ابتداءً بعرق مشهود له بإنجاز رفيع وإنما فراراً من عرق متواضع الإنجاز أو متواضع الصيت في مكان بعينه. وهكذا قد يصحو أحدهم فيقرِّر بين عشية وضحاها أنه ليس من هناك وإنما من هنا، لا يعوِّل على بيِّنة أكثر من قرار حاسم ووجه لا يحتمل الهزْل عند الحديث بذلك الخصوص”.

غير أن ما نعنيه بعنوان هذا المقال وما سيندرج تحته ليس متعلقاً بأمنية فرد أو مجموعة عرقية تنبش في الماضي القريب أو البعيد عن انتماء مشتهى بدوافع اجتماعية أو سياسية منفِّرة من وجهة وجاذبة من الوجهة الأخرى في الوقت نفسه، قدرَ ما هو متعلق بأداء الشعوب وهي متصالحة مع انتمائها بما لا يجحده الآخرون أيضاً على صعيد ذلك الانتماء. بذلك يصبح الحال أقرب إلى ما استشهدتُ به تحت عنوان “اليوم أنا من هنا” أيضاً ولكن نقلاً عن “جينات سودانية” هذه المرة: “لم يكن مفهوم العبودية خلال التاريخ المديد للحضارة البشرية مرتبطاً بالسود كما أضحى خلال بضعة قرون حديثة، بيد أن ذلك لا ينبغي أن يفهم على أنه إشارة إلى أن القرون الأولى شهدت تفوقاً للعرق الزنجي أو أنها كانت سجالاً بين البيض والسود في الحكم والسيطرة، كل ما هنالك أن الساحة كانت شبه خالية للبيض يعيثون فيها فساداً أو إصلاحاً كما يشاؤون، هم السادة وهم العبيد، حتى إن البعض يذكر (إشارة إلى بيتر فارب عالم الأجناس الأمريكي نقلاً عن النسخة العربية من كتاب له تحت عنوان “بنو الإنسان”) أن حكماء الإمبراطورية الرومانية في ذروة مجدها كانوا ينصحون الناس “بأن لا يتخذوا من بريطاني عبداً يدخلونه بيوتهم” لأنه لا يمكن العثور في طول الإمبراطورية الرومانية وعرضها على “عبيد أغبى من البريطانيين”…”.

ولكن الإشارة الأخيرة هذه للدقة تومئ تحديداً إلى تبدّل، بل انقلاب، تجليات الشعوب العرقية على الواقع بما يفيد تحوّل العبيد إلى سادة، وإن يكن ضمن نطاق جغرافي بعينه، وبما لا يضمن تحقق العملية المقابلة (تحول السادة إلى عبيد) في غضون الحكاية نفسها اكتمالاً لمفارقة كان من شأنها أن تبعث على مزيد من الإثارة في قراءة الحدث لو تحقّقت.

في إطار البحث عن مثال واضح الخصوصية في النظر إلى حالة شعب خالص العرق (بقدر ما يجوز إطلاق التعميم) مع التبدّل على صعيد تقدير الآخر (سائر شعوب العالم في هذه الحال) لعلامته التجارية، يبرز الصينيون في مركز الصورة بوصفهم أكثر (أو على الأقل واحداً من أكثر) الشعوب تقلّباً في تقدير الآخر له. فقد صاغت الصين كأمّة علامتها التجارية من الذهب الخالص منذ فجر الحضارة الإنسانية بوضع بصماتها الناصعة على نشوء اختراعات ستغدو لاحقاً جوهرية في مسيرة البشرية كصناعة الورق وتقنية الطباعة. ثم برز الخزف الصيني بعد قرون كمثال آخر على قدرة الصين على الزج بالمزيد من العلامات التجارية المميزة والملهمة إلى درجة اختصار المنتج برمّته عندنا في الاسم “صيني” وحسب، وهي علامة صينية فريدة ألهمت اليابان ثم إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والدنمارك وإنجلترا وهولندا وأمريكا ودمشق السورية على سبيل المثال بحسب ويكيبيديا.

حديثاً انقلبت علامة الصين التجارية لا نقول من الذهب إلى النحاس أو الحديد، وإنما من الذهب الأصلي إلى الذهب المقلّد، ليذيع صيت الصينيين بوصفهم الأقدر على تقليد كل شيء في نسخة أكثر رداءة وأكثر جماهيرية في الوقت نفسه. ولكن الصين سرعان ما تداركت الأمر حين استطاعت من خلال شراكات يصح وصفها بالذكية مع الغرب (وبصورة خاصة مع أسطورته الأمريكية الكبرى) أن تقنع العالم بأنها تستطيع أن تصنع حسب الطلب من معايير الجودة، وعليه فإن مسألة التقليد أو الجودة الأقل إنما هي رغبة المستهلك وحاجة السوق وليست قصارى جهد وعبقرية المُصنِّع كما يحب أن يروِّج البعض (الغرب تحديداً الذي أفلح الصينيون في قلب سحره عليه من خلال الشراكات الماكرة المشار إليها).

تقلُّب (وليس انقلاب) علامة الصين التجارية يبدو والحال كتلك، وتحديداً في العصر الحديث، إراديّاً في إطار تكتيكي، وربما استراتيجي، لاجتياح الأسواق العالمية وغمرها بالبضاعة الصينية زهيدة الثمن، تطلعاً إلى حصة نوعية أكثر فخامة تحققت بالفعل للصينيين لاحقاً مع اتّباع سياسة النفَس الطويل والدهاء مع خصم (الغرب) كان يظن مهارة التخطيط الاستراتيجي حكراً عليه. تلك الاستراتيجية الصينية باتت ملهمة للغرب نفسه كما يتجلى مع واحدة من أشهر علاماته التجارية جودةً، فالسويد فعلت العكس باستلهام التجربة الصينية (هل أقرّت بذلك؟) عندما خفّضت معايير الجودة في بعض علاماتها التجارية الرائجة طمعاً في اكتساح شرائح أعظم من أسواق العالم (“إيكيا” و”إتش آند إم” مثالاً).

إزاء ذلك يبدو بعض العلامات التجارية عصيّاً على التغيير، على الأقل لأمد محدد زمنياً وإن يكن ليس قصيراً، فألمانيا واليابان حازتا على سمعة منقطعة النظير في الجودة على مختلف الأصعدة طوال العقود الماضية، مع تفوّق ألماني أكثر خصوصية جعل من عبارة “صنع في ألمانيا” علامة جودة تجارية لا تضاهى بما أحرج نظيراتها الغربية كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة التي لا تستطيع أن تسحب صيتها الصناعي بذات الفخامة والرصانة على كافة ما هو ممهور بخاتم الجودة البريطانية والفرنسية والأمريكية، تمثيلاً لا حصراً.

من الشعوب ما يملك علامة تجارية لا تحظى بثقة مطلقة وإنما بشروط مقيدة ببضاعة بعينها، كاشتهار الروس في عمليات طب العيون وأهل التشيك في إنتاج الكريستال البوهيمي والبلجيكيين في صناعة الألماس عالي الجودة.

وهكذا لا تكاد دولة، مهما يكن حجمها أو شأنها في العالم صغيراً، تعدم علامة تجارية متميزة إنْ في محيطها الإقليمي أو عالمياً، وذلك ابتداءً من إنتاج المواد الخام لصناعات رائجة وصولاً إلى تصدير المواهب الواعدة من أبنائها في الرياضات المختلفة إلى الملاعب العالمية، وستبرز إفريقيا هنا بوصفها القارة الأكثر تصديراً لعلاماتها التجارية الخام على اختلافها.

بعيداً عن معايير قياس قوة جوازات السفر رجوعاً إلى قوة كل دولة سياسياً واقتصادياً ودبلوماسياً، يحظى بعض الشعوب باحتمالات أكبر للقبول سواءٌ في فرص العمل بوصف أبنائه مشهورين بالتفاني في العمل الشاق، أو في إمكانية الحصول على سكن أسرع في الأماكن الراقية بوصفهم معروفين بدقة المحافظة على التقاليد الأنيقة في الإقامة والاختلاط، والأخير مثال طريف على كيفية الإفادة من علامة تجارية تخص شعوباً محددة في محيط إقليمي أو دوائر اجتماعية في منطقة بعينها.

تتلخص فكرة تبدّل مواقع علامات الشعوب التجارية على سلم التنافسية عالمياً على امتداد التاريخ في مفهوم مداولة الأيام بين الناس، وبرغم أن الناس أكثر ارتياحاً إلى التنميط في استقبال طباع وأخلاق الآخرين، فإنهم بموازاة ذلك على استعداد للعدو خلف موضة علامات الشعوب التجارية وهي تتبدّل بفعل بروز مفاجئ لأمة ناشئة أو استعادة مكانة رفيعة لأمة هوت بها الأقدار ردحاً من الزمان، أو حتى من باب مجاراة الموضة المجردة وهي تدفع بهذا الشعب المغمور أو ذاك إلى الظهور بعلامة تجارية مسجلة في أحد المواد الأولية المستخدمة في مستحضرات العناية بالبشرة.

Exit mobile version