عمرو منير دهب يكتب: أشكال التديُّن
nasdahab@gmail.com
الدين نفسُه أكثر قداسة لا ريب من أن يُقال إنه يخضع للموضة، لكن أشكاله وفق تفاسير البشر وحظوظها من الانتشار في هذا الزمان وذاك المكان تُفصح عن أن شكلاً من أشكال التديّن يطغى لحين من الدهر هنا ويسود نقيضُه هناك، ثم تنقلب الظاهرة فتتبدّل الأشكال في الأماكن. وبعيداً عن فرح كل حزب بما لديه وإصرار كل فرقة على أنها الناجية، لا يمكن إغفال حقيقة أنه لا شكل/فرقة/طائفة/مذهب واحداً يسود للأبد، أو حتى لأمد طويل في مكان بعينه. ولمزيد من الدقة، يجب الانتباه إلى أن الصفة “طويل” هي محض نسبية كالعادة، وعليه فإن تفاوت الطول في طغيان شكل بعينه لا يشير إلى صحته قدرَ ما يشير إلى سطوة العوامل التي مكّنت له، لتحلّ تجليات دورة الزمان إن عاجلاً أو آجلاً، وما “دورة الزمان” هذه سوى المرادف الأكثر فخامة للموضة كما أشرنا من قبل.
من الحكمة كذلك الانتباه إلى أن تغيُّر أشكال التديُّن حدث يطال المجتمع ابتداءً فينتقل من الميل لشكل إلى ترجيح آخر، ولكنه حدث يقع على الأفراد كذلك بدرجة كبيرة، ولا نعني هنا الأفراد المشكِّلين للمجتمع من موقع المتأثِّر، وإنما الأفراد المؤثِّرين في تكوين أو مناصرة أشكال التديُّن نفسها، فكثيراً ما ينتقل فرد بالغ الحماس من مؤازرة طائفة دينية إلى الطائفة المقابلة، أو حتى إلى تشكيل مذهب ديني/سياسي برؤى مختلفة وأحياناً مناقضة.
وقد اقتطفنا في “جينات عربية” نقلاً عن توماس إريكسن في النسخة العربية من كتابه “العرقية والقومية” ما رأيناه بالغ الدلالة في الإشارة إلى “موضة التباهي بالأعراق”، ونستميح القارئ العذر هنا في إعادة الاقتطاف كاملاً: “يتعلق أحد الأمثلة بإعادة بناء التاريخ الذي كان ناجحاً بصورة جزئية فقط بالمسلمين في الموريشيوس، مكونين 16 إلى 17 في المائة من مجموع السكان في الموريشيوس، فإن كل المسلمين الموريشيين هم سليلو التجار والعمال بعقود استخدام ممن جاؤوا من الهند البريطانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. كانت لغاتهم هي البوجبوري، السندي والغيوجاراتي، كان القليل منهم يعرفون الأوردية. في العام 1972، ثـبّت كل المسلمين تقريباً أن لغة أسلافهم كانت اللغة الهندية (الأوردو، كونها ذات حظوة، كانت أكثر تمثيلاً)، لكن عند حلول التعداد التالي بعد عشر سنوات، ثـبّت أكثر من نصف المسلمين أن لغة أسلافهم كانت العربية. ظهرت خلال السبعينيات حركة قومية عربية قوية، ومع أزمة النفط التي بلغت ذروتها في العام 1973 صار واضحاً أن العرب مثلوا قوة لا يستهان بها في السياسة العالمية. أصبح أكثر إثارة للاهتمام أن تكون جزءاً من هذه الحركة من أن تتعقب جذورك نحو الباكستان أو الهند. وعليه، أعاد الموريشيوس المسلمون تحديد ثقافتهم السالفة. في العاصمة، بورت – لويس، بدأت النساء المسلمات بارتداء الحجاب وبدأ الرجال بارتداء الثوب الأبيض الطويل وأطالوا لحاهم. حاولوا، بصورة مؤثرة، أن يصبحوا سليلي العرب بدلاً من أن يكونوا سليلي العمال الهنود”.
ولكن مع إعادة الاقتطاف أعلاه في سياقنا هذا، يمكن الوقوف على حقيقة أن صنيع مسلمي الموريشيوس ذاك أوائل السبعينيات الماضية كان يعبِّر عن تغيُّر في شكل التديُّن بصورة موازية لدلالة تغيّر الانتماء العرقي، وربما بصورة أكبر وأكثر قابلية للتحقق والتصديق في الوقت نفسه، فتغيير الانتماء العرقي مسألة خاضعة للخطأ والصواب، أي إنها قد تكون انتقالاً تصحيحياً للانتماء نحو العرق الأصل بعد سنوات من التمرّغ في تراب عرق آخر إنْ كرهاً وإنْ طوعاً، أو مناورة للتشبّث بأذيال عرق ليس هو الأصل لكنه بات يبرز في الساحة الإقليمية أو الدولية بإنجاز رفيع. في حين إن الانتقال من أحد أشكال التديُّن إلى غيره أو حتى نقيضه أمر لا يوجد من الناحية العلمية أو العملية ما يمكن أن يقدح في مشروعيته بصرف النظر عن اتجاه الانتقال، من اليمين إلى اليسار أو العكس، وبعيداً عن مسألة النوايا التي هي جوهرية بطبيعة الحال ولكن يصعب (وغالباً ما يستحيل) الإمساك بها سواء في وضع البراءة أو حالة التلبُّس المُدين.
في الموضع نفسه من “جينات عربية” عرضنا لما يشير مباشرة إلى موضة التديّن وفق شكل بعينه لا يقتصر على اعتبار اللحية ضرورة لصحة إسلام الرجل وإنما يدقِّق في طريقة إطلاقها: “خلال النصف الثاني من الثمانينيات وحتى أواخر النصف الثاني من التسعينيات بل وبدايات الألفية الجديدة، كان الزهو بإطلاق اللحية الطويلة شيمة المقيمين في الخليج من أبناء القبائل التي تمتّ بصلة إلى الفئة العرقية التي ينحدر منها مقاتلو طالبان أيام كان قتالهم يُصنَّف من قِبل جميع المسلمين تقريباً على أنه جهاد محض ضد الروس. ومع بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وربما قبلها بقليل، لم يبق من أبناء تلك القبائل من يُسرّ بإطلاق لحيته طويلةً إلّا القليل جداً ممن يفعلون ذلك على الأرجح عن قناعة تديُّنيّة محضة”.
وبتقدير فائق من قِبَلي لاثنين من أشهر أشكال التديّن الإسلامي تعارضاً وتناوشاً، أكتفي بالإشارة إلى أن الصوفية في القرن الماضي وما قبله (ربما بكثير) قد سبقت السلفية إلى شبه الجزيرة العربية، ثم جاء زمان سادت فيه السلفية سيادة شبه مطلقة في ذلك المكان، ثم ما لبثت تباشير التسامح والقبول المتبادل بين السلفية والصوفية أن عادت إلى الظهور في أكثر من مكان بشبه جزيرة العرب. ذلك عن أظهر شكلين متعارضين للتديّن الإسلامي مؤخراً، أما ما دون ذلك من تبدّل انتشار وسيادة أشكال التدين، وأحياناً – وبصورة خاصة – الانتقال من مظهر شديد التساهل لاعتناق الدين إلى التديّن بشكل عام، فذلك أظهر وأكثر لا ريب في كل مكان وزمان، بتوسّع في الرؤية وليس باقتصارها على ديننا الإسلامي فحسب، وبمرونة في احتساب الفترة الزمنية انطلاقاً من حساب السنوات إلى العقود، وسنتجاوز في هذا المقام لا ريب عن القرون لأن صبر الموضة – في أيٍّ من تجلياتها – أوهَى جلداً في الغالب من أن يحتمل فسحة القرن الزمنية الرهيبة.
الأهم في مقامنا هذا بصورة خاصة التأكيد على أن موضة تبدّل أشكال التدين ليست دلالة على الصحة قدر ما هي إشارة إلى سطوة العوامل (السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية) التي ترجّح هذا الشكل على ذاك، وهو ما ينطبق على كل ما يخضع لسلطان الموضة من شؤون حياتنا على كثرتها واتساعها. وإذا ظلّ البعض مصرّاً على التأفف من كلمة الموضة فإن مصطلح “دورة الزمان” يبدو كما أشرنا من قبل جاهزاً باستمرار للاستخدام بوصفه بديلاً مُرضياً بفخامته لكبرياء البعض، وإن يكن بدوره عصيّاً على تعصُّب أنصار أشكال التدين بصفة خاصة، وربما حصرية.