عادل الباز يكتب: حكايتي مع حمدنا الله (7)
في ما أرى
1
أرهقني دكتور عبد الله حمدنا الله بالعزاءات التي لا تتوقف اذ كنت سائقه الدائم أسبوعياً كنا نطوف أرجاء العاصمة لتقديم العزاء للذين يعرفهم أو لا يعرفهم، وليس بالضرورة أن أعرفهم أنا. في يوم وصول جثمان الطيب صالح، غالبني النوم حتى الثالثة فجراً. صحوت مفزوعاً وسارعت بالذهاب لمنزل دكتور حمدنا الله وجري على البكري.
في الطريق ظل البروف يحدثني عن شخصية كرهها الطيب صالح، وأحبّ ألا يكونها؛ هي مصطفى سعيد. وأخرى أحبها وعجز أن يكونها، وهي شخصية منسي. قلت للدكتور اليوم تحقق شيء من ذلك. فمصطفى سعيد عاد ليُدفن هنا على هذه الأرض، وها هو الطيب يعود ليدفن في البكري. منسي أحب أن يُدفن مع من يحب في مقابر المسلمين، وكان أهله يحسبون أنه مسيحي.. وشهد الطيب أنه مسلم، فدُفن مع من أحب في مقابر المسلمين بلندن. الآن ها هو الطيب صالح عاد ليُدفن مع من أحب (صلاح أحمد إبراهيم، وعلي المك) في مقابر البكري.
حين وصلنا لمقابر البكرى وجدنا امدرمان كلها قد حملته على أكتافها، أدمنت أم درمان حمل الشهداء على أكتافها. حملته… لا… لا ليس لمثواه الأخير… مثواه لن يكون أخيراً هنا تحت التراب.. مثواه سيبقى في قلوب المحبين الولِهين والقُرّاء المعجبين، ثم من بعد نسأل الله أن يكون مثواه الأخير في الفردوس الأعلى.
كان بالمقابر خلق كثير يتقدمهم السيد الرئيس السابق عمر البشير، وبكري حسن صالح، وعبد الباسط سبدرات وغيرهم.. كان الناس يهرعون نحو الرئيس البشير لتقديم العزاء ولكن دكتور حمدنا الله ظل في مكانه ولم يتقدم خطوة نحو الرئيس والوفد المرافق له. كان ذلك طبع فيه، ينفر من قرب السلاطين ولا يقف عند أبوابهم قط. في وقت تزاحم مثقفون كبار وكُثر على أبوابهم. وأعرف كم من مرة جاءه (المُرسال) من الأستاذ علي عثمان ليتبوأ وزارة الثقافة (ولائية ومركزية) ولكنه مصر على الإعتذار عن تبوء أي منصب حكومي، كان مؤمناً بما يؤديه من خدمات للمجتمع بإثراء لياليه الثقافية بنافع القول وبإساهماته المتعددة في المجال الأكاديمي من معهد الموسيقى والمسرح إلى جامعة أفريقيا العالمية. اختار أن يكون معلماً مثقفاً وليس موظفاً مثقفاً. الآن زالت الوظائف والنظم وبقي أثر ومآثر حمدنا الله وسيبقى مؤثراً فى أجيال قادمة من السودانيين.
عندما دلفنا عائدين بعد الدافنة نظرت إليه قائلاً (يا واقفاً عند أبواب السلاطين إرفق بنفسك من هم وتحزين.). ففهمني وابتسم، ولم يزد!!
2
أذكر يوماً آخر قادني فيه باكراً للقاء دكتور عبد الحليم محمد، والذي لم أصدق عيني حين رأيته، إذ كنت أعتقد لوقت طويل إنه (غادر)، وكنت قد تعرفت على د.حليم عبر نشاطاته المتنوعة فهو الطبيب الماهر، وهو الرياضي ومؤسس الكاف (ولد الدكتور عبد الحليم محمد بمدينة أم درمان في العاشر من أبريل العام 1910م واكمل عامه التاسع والتسعين في 10 أبريل 2009م.). ثم هو الكاتب الذي عرفناه عبر كتاباته وخاصة عبر كتاب (موت دنيا)، الذي كتبه بالاشتراك مع محمد أحمد المحجوب. كتب حمدنا الله عن موت دنيا في صحيفة الأحداث 22/2/201 (موت دنيا، حياة مشتركة عاشها محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد، تحت سقف واحد، ومدرسة، وكلية غردون التذكارية، وفي هذه الدنيا يتلازمان حيناً، حيناً حيناً، حينما كان محمد أحمد محجوب يذهب إلى قريته الطلحة قرب الدويم، ولكن بينهما رسائل لا تنقطع، ومن هذه الرسائل وغيرها جاء كتاب موت دنيا. قطع مختلفة من أنماط الحياة المختلفة الموجودة في أشكال مختلفة من الأشكال المختلفة، وهي عبارة عن قصة تاريخية رائعة).
. حين وصلنا إلى منزل حليم في نمرة (2) بالخرطوم سألته عن سبب تلك الزيارة المفاجأة.. فقال لي اختلط علي أمر في كتاب (موت دنيا) وأريد أن استوضحه من عبد الحليم، وكنت قد استغربت الأمر إذ أن الكتاب كُتب قبل خمسين عاماً تقريباً، فكيف لرجل تسعيني أن يتذكر تفاصيل أحداثه؟!.. في داخل البيت وحين جلسنا مع حليم.. تمنيت لو أنني لم أشاهده وهو بتلك الحالة، كانت قد ركزت في ذهني صورة الشباب النضرة، الوسامة والقوام الجميل والعيون التي يشع الذكاء منها، وطاف بذهني ذلك النشاط العظيم الذي كان يقوم به، من الطب للرياضة للكتابة، إيييه يا دنيا، ماتت تلك الدنيا وهمد كل شيء ماعدا شفتين تتحركان وعينين زائغتين ولسان بالكاد ينطق.!!. قال حليم لحمدنا الله في تلك الجلسة التي لم أراه بعدها، إنه لا يتذكر الآن ما إذا في كان النص الذي سأل عنه حمدنا الله من الرسائل التي كتبها هو أم السيد محمد أحمد محجوب، ثم دار حديث طويل عن أسلوب الكتابة عند الطرفين ونقاش – لا أذكر تفاصيله – عن محي الدين جمال أبو سيف وحسن نجيلة وتتبعوا قصص شخصية فوز ودار نور الشائق، أذكر أنني دونت تفاصيل اللقاء في صحيفة الصحافة يومها وطارت الآن من الذاكرة. رحم الله حليم لقد ترك بصماته في حياتنا وغادر راضياً مرضياً.نواصل