صرف الأنظار عن العدوان واستخدام نتائجه ذريعة للانقضاض
د. الخضر هارون
لعلنا قد أسرفنا في القول علي مدى يقارب الثلاثة عقود في ترديد القول إن السودان لا يقع ضمن الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة الأمريكية جديرة باهتمامها وضمن استراتيجيات أمنها القومي ومصالحها الحيوية أو المهمة على الرغم من ثرائه البين ووقوعه على ممر مائي مهم تعبره التجارة الدولية هو البحر الأحمر .ولقد أصبح السودان في فترات بعينها هماً وفقا لحادثات مبعثها الخوف من أن يصبح موضعاً للإضرار بتلك المصالح . فقد برز لدائرة الاهتمام عندما خيف أن يصبح منصة للتغلغل الشيوعي في الماضي وقبل كساد الشيوعية كبرنامج للحكم أو حاليا منطلقا للنفوذ الروسي أو الصيني أو قاعدة إنطلاق تهدد الدول الحليفة لأمريكا والغرب في المنطقة .وتلك الدول الحليفة ذات الأهمية الاستراتيجية لا تُسأل عن نظم الحكم القائمة فيها ولا عن كيف تتعامل مع رعاياها فهي حرة أن تكون كيفما شاءت وتشاء فأهميتها في بقائها كمصدر اقتصادي لا غنى عنه أو محطة مراقبة عسكرية وحضارية كإسرائيل .
وشأننا اليوم عن السودان وأمريكا قال عنه دونالد باترسون سفير امريكا لدى الخرطوم من ١٩٩٣-١٩٩٦ في كتابه Inside Sudan أن أمريكا لم تكن مرتاحة لمواقف السودان منذ استقلاله حيث كان أقرب للمعسكر الشرقي. يذكر أن نظام الفريق عبود اعترف بجمهورية الصين الشعبية في ذروة حروب أمريكا في الفيتنام . كان ذلك قبل اعتراف أمريكا بعقد كامل بالصين .كما أن جوزيف برزنيف رئيس مجلس السوفيت الأعلى كان قد زار السودان في ستينيات القرن العشرين. وكذلك جوزيف بروز تيتو حاكم يوغسلافيا و أيضاً رئيس وزراء المجر الذي منح (مجراب السودان) عام ١٩٧٠ عشر منح دراسية في المجر . وتبقى العصا والجزرة للاستخدام في حق الدول الأقل أهمية المفروض عليها وحدها الإذعان المطلق وعدم تجاوز حدود مرسومة وإلا فهناك حزمة من الذرائع تنتظرها وتبرر إيقاع الأذى عليها جاهزة للاستخدام :مخالفة القوانين الدولية . غياب الحكم الديمقراطي المدني ، انتهاكات حقوق الإنسان، وقمع الأقليات. وغيرها . ذلك يبرر التدخل الإنساني لدرء المجاعات ووقف الحروب التي يصنعوها هم للمفارقة!
وفي شأننا مع أمريكا أحداث مؤسفة أبقت بعض النفور وبعض الجروح حية: مقتل السفير الأمريكي ونائبه على يد جماعة أيلول الأسود الفلسطينية في حفل استقبال بسفارة السعودية عام ١٩٧٣. ما بال ايلول الذي هو سبتمبر بجراحات أمريكا في أكثر من مكان ؟! حدثني من أعد رسالة للماجستير عن العلاقات السودانية الأمريكية وفقاً لمقابلات أجراها عن كيف يصيب الهلع والخوف عائلة الدبلوماسي الأمريكي المنقول للعمل في سفارة أمريكا في الخرطوم علي خلفية ذلك الحادث المؤسف. وجاء مقتل جون غرانفيلد موظف المعونة الأمريكية في العام ٢٠٠٨ في الخرطوم علي يد متطرفين ليربط اسم السودان بموت أمريكيين. وهذه الاحداث المؤسفة علي قلتها تصبغ العلاقات بمشاعر سالبة وتساهم في خلق صورة تدمغ البلد الذي تقع فيه بما يبرر النيل منه.
اقتربت أمريكا في سياق الحرب الباردة من السودان مرتين ، مرة عند توسع نفوذ الناصرية واليسار بأطيافه العديدة بما في ذلك الاحزاب الشيوعية ،ذراع الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية في شرق أوروبا، وتداعي أولئك جميعا إلي حملات فعالة ضد الغرب وأمريكا والإمبريالية عبر وسائط الإعلام فأرسل الرئيس أيزنهاور نائبه ريتشارد نيكسون ( الرئيس لاحقاً ) للسودان عارضا مساعدات تنموية عبر مشروع أيزنهاور ( المعونة لاحقاً) لتطويق الانتشار الشيوعي في المنطقة. والمرة الثانية عندما قام حلف عدن الذي ضم صومال سياد بري وإثيوبيا منغستو هيلا مريام وكان الأخير قد آوى إليه الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة العقيد جون قرنق الذي وصف حركته في البدء بأنها حركة ما ركسية لينينية. ولتطويق ذلك المد الشيوعي امتدت يد الولايات المتحدة لمساعدة نميري الذي كان قد قلب ظهر المجن لليسار المحلي والعالمي ويمّم شطر الغرب بقيادة أمريكا.
ولما اشتدّت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في مايو ١٩٨٣ ثم أعلن نميري قوانين الشريعة الإسلامية لاحقا في سبتمبر من نفس العام، برز المزيد من الاهتمام بالجنوب ثم مالبث أن ترسخ بعد مجئ الإنقاذ واشتداد المعارك في الجنوب حتي أصبح ضمن الانشغالات الداخلية الأمريكية لدي الكنائس المسيحية والجالية اليهودية وللأفارقة الأمريكيين والليبراليين المعارضين لفكرة الدولة الدينية. وازداد الانشغال بعد قيام المؤتمر الشعبي العربي الاسلامي.حيث عبرت دول الجوار عن مخاوفها من سلوك حكومة السودان المهدد لأمنها فاهتمت أمريكا عند ذاكً بشؤون السودان. وهكذا ارتسمت صورة مخيفة للسودان في العقل الأمريكي.
والشاهد فيما تقدم أن السودان ليس ضمن الدول التي تعتبرها أمريكا في منظومة المصالح الحيوية. ويتيح هذا التوصيف مساهمة لوبيات ومراكز بحوث وجمعيات وربما صحف تسترزق في مناخ الأزمات أيضا ً في إدارة دفة علاقات أمريكا تجاه تلك الدولة غير المهمة كالسودان .يمكن للمزيد من الضوء مراجعة مقالة روبيكا هاميلتون لوكالة رويتر للأخبار وهو موجود في صفحة رويترز وكيف كما قالت تمكنت مجموعة صغيرة ظلت تعمل منذ ثمانينيات القرن المنصرم من تقسيم السودان في نهاية المطاف. وراجع ما كتبه كبير مستشاري المبعوث الأسبق الخاص للسودان وجنوب السودان، زاك فيرتن Zack Vertin في كتابه ( A Rope from the Sky) ، ( حبل من السماء ) عن دور شاب حديث السن من اثيوبيا جاء من معسكرات اللاجئين في جيبوتي يدعي تيد داغني ، لم تكن له أي معرفة بالسودان ولا دراسة تبرر ذلك كان هو مصدر الكونقرس الرئيس بشأن السودان! قال هنري هايد رئيس اللجنة الفرعية للشؤون الإفريقية في مجلس النواب آنذاك ما معناه انه بشأن السودان فإن القول ما قال تيد! يعني تيد داغني. وكان ينادي جون قرنق ب يا عمي ويرد عليه قرنق بابن أخي. علق السيد زاك بالقول إن تعامل تيد داغني الصارخ التحيز كان محيراً جدا حيث يفترض في هذه المؤسسات الحيدة واللا حزبية ! مؤسسات أكبر وأهم الديمقراطيات في العالم !قال له المبعوث الراحل للسودان برينستون للايمان شاكياً : عندما كنا نعبر عن رفضنا لبعض ممارسات خاطئة للحركة الشعبية، تقوم علينا القيامة من حلفائها في واشنطن. وأردف قائلا : ذلك لم يكن في مصلحة عملنا! يضاف إلي ذلك تعيين شابة في الثلاثين من عمرها هي السيدة سوزان رايس في البيت الأبيض ثم مسؤولة في الخارجية قالت وتباهت في كتابها Tough Love بأنها كانت وراء جل العقوبات التي صوّبت ضد السودان تلك العقوبات التي أماتت قاطرات السكك الحديدية أمريكية الصنع وقطع طائرات البوينق في أسطول سودان أير وجرارات كاتربلار! رسالة المذكورة للدكتوراة لم تكن حتى عن اقليم شرق افريقيا دع عنك السودان بل عن جنود للأمم المتحدة في زمبابوي. هل يكشف بعض هذا الصنيع أي أهمية للسودان لدى البلد الأول في العالم ؟! كتب السفير الأمريكي تيموثي كارني الأسبق في السودان ورجل الأعمال منصور إعجاز مقالة في واشنطن بوست عام ٢٠٠٢ ذكرا فيها أن وكالة الاستخبارات الأمريكية وجّهت بإخلاء السفارة في الخرطوم من الطاقم تحسبا لمعلومات بعمل ارهابي هناك. وتم الاخلاء لكن سرعان ما اكتشفت أن ذلك بني علي تقارير (مفبكرة )ولذلك تم إحراق اكثر من مائة ملف ومع ذلك لم يعاد الطاقم العامل في السفارة لمزاولة العمل فيها ولم تغادر العلاقة محطة العداء. وكان ويليام أنتوني ليك مستشار كلينتون لشؤون الأمن القومي قد تخفي في واشنطن بتلك المعلومات المفبركة لأكثر من عام علي اعتبار أنه مستهدف بالتصفية!
ترى ما مبعث تلك الكراهية؟ وقد أقر لي كثير منهم أنهم لم يلمسوا أي كراهية من السودانيين تجاههم وبالفعل لا توجد كراهية بل انطباعات طيبة تجاههم في السودان ولدي من استوطنوا بين أظهرهم!
والقول في هذا الصدد يطول.
وبخصوص المبعوث الأمريكي الحالي السيد توم بريللو فقد نسج على منوال ما بدأه السفير الأمريكي السابق والسيدة وكيلة الخارجية للشؤون السياسية المغادرة منذ بعض الوقت ومساعدة الوزير للشؤون الافريقية وممثل الأمين العام للأمم المتحدة فولكر ورهط من الجوار ومن أوروبا وقد بدأوا جميعا بداية خاطئة هدفت لتنصيب مجموعة صغيرة مختارة أصروا بلا منطق أنها تمثل الشعب السوداني بكامله وأنها الوحيدة التي تشكل حكومة الفترة الانتقالية وسوقوا العرض المربك للعالم بأنهم قد احلوا مكان الحكم العسكري حكما مدنيا ! كأن التسلط صفة يتفرد بها الكاكي أو الكموفلاج العسكري وحده ولا يهم المحتوي بعد ذلك وكأن الزي المدني وحده يجعل صاحبه ديمقراطيا ومدنياً دون تفويض. لقد أفضي ذلك التدبير الأخرق الذي أغفل غالبية شعب السودان وأصر أن يفرض عليه مجموعة من الناس ،لنشوب العدوان الحالي علي الشعب السوداني وكان الأحري بالمبعوث الأمريكي أن يصلح الخطأ ويبدأ بزيارة السودان والتحدث مع جميع مكوناته لكنه فضل التجوال علي دول المنطقة والاستعانة بذات المجموعة الصغيرة المختارة لتتكرس لديه قناعات أولئك . تصوروا مبعوثا حكوميا يبعث لحل مشكلة بلد ما لا يزورها. ذات الاستهتار بالدول المغلوبة علي أمرها.
ولما ووجهت بضاعته القديمة التي أدت للحرب طفق يجمع الأصفار للنيل من السودان وأخرج العصا الغليظة يهدد بها بمرارة فشل أسهم فيها سيضاف إلي سجله من خيبات عديدة سلفت. ذلك باسم مجاعة لم تقع بعد وقد تقع تسببت فيها الحرب التي سببها الإطاري الذي راموا فرضه علي الناس وكان بإمكانه أن ينصح حكومته بإلزام الإمارات بوقف إمداد التمرد بالمرتزقة والعتاد الحربي ودولة تشاد بذات الشئ وإخراج التمرد من بيوتنا كما نص اتفاق جدة الذي ساهمت أمريكا في إبرامه ومن الجزيرة مصدر زراعة الغذاء في السودان ودريئة المجاعات فيه. أليس هذا أقصر الطرق لحل الأزمة ووقف الحرب ؟!هذه جريمة لن يغفرها التاريخ لكل من ساهم في صنعها.
ومع ذلك واستنادا علي ما ذكرنا من أن شؤون الدول التي لا تشكل أهمية كبيرة للولايات المتحدة ولا تحدث خدشاً في مصالحها الحيوية ، يتيح فرصاً لبيروقراطيين في الجهاز التنفيذي ولنواب في الكونقرس أو لمعاونيهم ولوبيات ومجموعات مصالح تحشر أنفها هناك في شؤون دول مستضعفة والمؤسسة الحاكمة تغض الطرف عن النتائج طالما كانت لا تلحق الأذي بمصالح البلاد الحيوية، قد تتشظي تلك الدول، وينهار بناؤها من الأساس ويتشرد أهلها. كل ذلك لا يهم والشواهد عليه شاخصة لا تخفي.
ومع أهمية التحليلات واستصحاب المناخ الدولي وقابليته من عدمها في إنفاذ أهداف التآمر الخارجي علي السودان يلزم الحذر ويحتاط لتهديدات هذا المبعوث المدفوع بمرارة الفشل لإلحاق الأذي بالسودان دولة وشعباً وفي الذاكرة نجاح أمثاله في الاضرار بدول مثل السودان تعرفونها جيدا والسودان كما علمتم لا بواكي له في الاقليم بأكمله .
والتصدي ليس بالإذعان و طأطأة الرأس لأن ذلك سيحقق أهداف ومرامي العدوان المشار إليها بأدناه بل يكون بالمقاومة المشروعة التي تتيحها القوانين الدولية لكل من وقع عليه عدوان بنصوص ميثاق الأمم المتحدة باللجؤ للمحاكم الدولية وللمنظمات الاقليمية التي يتمتع السودان بعضويتها والسعي للتواصل مع الأحرار في العالم .والمقاومة هذه المرة أوجب من كل مقاومات سبقت لصنوف من الاستهداف والعدوان التي ظل السودان يتعرض لها منذ الاستقلال سواء تلك التي سببها نحن وسؤ تدابيرنا وتلك التي كانت من صناعة اقليمية ودولية أفادت من ذلك وأفلحت في النيل منا .
والمخاطر التي يحشد لها تدبير المبعوث الأمريكي وحلفه الجديد الذي يضم دولاً أمننا وبقاؤنا جزء لا يتجزأ من أمنها واستقرارها نأمل أن تدرك ذلك، عديدة أهمها:
-تحطيم الجيش الوطني والذي مهما قلت عنه وعن مواطن ضعفه وإن تعددت فهو عظم ظهر الوطن وحصنه الحصين ومهوي قلوب وأفئدة السودانيين في كل أجزاء الوطن الفسيح لانهم جميعا يجدون فيه ألسنتهم وسحناتهم رغم الدعاية الماكرة بأنه جيش للفلول والكيزان وإن لحقت به عيوب ونقائص فهي عيوبنا ونقائصنا وذاك الشأن في كل جيش في الدنيا.
⁃ استباحة هذه المساحة الشاسعة الممتدة علي قلعة من الذهب الخالص تتخللها مياه جوفية دائمة التغذية وسطحية من الأنهار وأراض خصيبة صالحة لتوفير الغذاء للملايين من البشر وتقسيمها بين المتآمرين وحرمان أهلها بل تقتيلهم أو تشتتيهم في الآفاق كما يجري الآن.
⁃ ذلك لا يتم إلا بالقضاء علي القلب النابض بالحياة الممتد من وادي حلفا جنوبا متجاوزاً ضفاف النيلين شرقا وغربا إلى السهول وعبر الأكمة والوهاد تلك الرقعة التي قامت علي ترابها الحضارات منذ القدم لا لتميز عرقي فيها ولكن لأن أعراق السودان جميعاً الزنجية والحامية والعربية انصهرت فيها وكونت قاعدة عريضة تنداح فيها كل يوم شرقا وغربا شمالا وجنوبا لتكتمل عملية الانسجام الوطني الذي يتبعه خروج العملاق من القمقم للعدوان أو اضطهاد من أمنوا ولكن لنشر الخير والعدل والعزة في الربوع كافة. لذلك ولكي لا يتم ذلك وقع التقتيل البشع والتشريد لإنسانه صانع الحضارات وإحلال المكان يبدو غلاظ تستهويهم قشور الأشياء يسهل قيادهم واستغفالهم وهذا وجه ربما من وجوه أدوات الاستعمار المعاصر في تقويض الدول والاستيلاء علي ثرواتها .ولقد رأيتم أرتال من الشهداء من كل الأصقاع في السودان الذين احبوا أرضه وسماه واستيقنوا عظمته وقدرته علي النهوض ولاحت لهم علي الربوة العالية ملامح المدينة الفاضلة التي تضمنا جميعاً في وئام، عثمان الهوساوي وأبناء جبال النوبة والصامدين في زالنجي والفاشر ونيالا والأبيض وطوكر.
⁃ لذلك ولإختلاف هذا الاستهداف عن سابقيه والذي يبدو كما لوكان المرجو الحلقة الختامية المفضية للغاية منه ومن سلسلة حلقاته السابقة بما حشد له من التدابير ، يتعين علي الحكومة ألا تراهن إلا علي شعبها وأن تبسط له حجم التآمر وأن تحشد قواها: الإعلامية والدبلوماسية والعسكرية جميعا فترمي العدوان عن قوس واحده؛ وا سوداناه! وعلي كل أفراد الشعب شيباً وشبابا أن يبذل كل واحد منه أفضل ما يمكن أن يجود به وألا يركن لمجرد أحلام العودة إلى مراتع صباه أو محاضن ذكرياته ومراقد أسلافه إلا بذلك وما النصر إلا بالتوكل الخالص مع الجهد إلي أقصاه والذي لا يدخر فكرا ولا حيلة ولا طاقة إلا جاد بها وذلك كمال الوفاء للوطن ولسودان الحضارات المدخر للمكرمات فالإنسانية بحاجة إليه.