تقارير

شجاعة اليأس.. في دروب النجاة شمالاً

الأحداث – وكالات
ڪان اجتياح ولاية الجزيرة من قِبل قوات الدعم السريع وبالاً على السودانيين، اضطرّ على إثره كثيرٌ من نازحي الخرطوم للنزوح مرة أخرى رفقة نازحين جُدد. اختار البعض منح أنفسهم وممتلكاتهم فرصة التعايش مع سودان ما بعد 2023 ، وتفاوضوا مع الدعم السريع في مناطق حول رفاعة والهلالية؛ لكنّ كثيرين فضّلوا النجاة هرباً؛ فاتجه البعض جنوباً صوب ولايات النيل الأزرق، سنار والنيل الأزرق، بينما اتجه البعض شرقاً إلى ولايات البحر الأحمر، والقضارف وكسلا. واختار آخرون العودة إلى الخرطوم، بينما يئس البعض من سودانهم، فاضطروا للخروج عبر دروب يشقها الألم وقلة الحيلة، وربما الموت.

من أبو حراز إلى مصر
في بلدة لم تَعْتَد آذانها سوى ضربات النوبات المُنتظمة، وتعلو ميكروفونات مساجدها أصوات الذكر، استيقظت أبو حراز على أصوات عالية وغريبة لم يُميِّزْها إلا بعض الناجين من حرب الخرطوم، وبعض ممن شاركوا في ثورة ديسمبر المجيدة. كان سؤال أهالي أبو حراز في الخامس عشر من ديسمبر من العام المنصرم، يدور حول ماهية الصوت الذي زعزع سلام المدينة في نهار أحد أيام الجمعات الهادئة الرتيبة. جاءت الإجابة من زخات الرصاص نفسها وهي تشق أشجار النيم العالية وتخترق أي قانون للإنسانية.
وحالما استوعب الناس طبيعة الوضع، وأنها الحرب تطرق أبواب ولاية الجزيرة، بدأوا في تبادل التحذيرات بأصوات عالية، تغلب عليها صيحات الرعب: «ارقدوا في الواطة تحت السراير عشان دا رصاص ،» أخبرت أمل مراسل «أتَر .»
«فهمتُ منذ الطلقة الأولى أن من واجبي طمأنة أسرتي، أنا التي تعودتُّ على أصوات رصاص الجيش والدعم السريع موجهةً إلينا ورفاق المواكب منذ ديسمبر 2018 ، وبعدها أثناء حرب الخرطوم عندما اختلف الجنرالات. فعلتُ ذلك بأن زحفتُ نحو المطبخ لعمل الشاي والقهوة ووجبة الإفطار، خوفاً على أمي المريضة بضغط الدم وأبي المريض بالسكر من الصدمة .»
وحسب أمل، فإن أول اشتباك استمر ثلاث ساعات تقريباً، تلته فترة هدوء نسبي وأصوات رصاص متقطع: «بعدها كان إحساس وحيد يسيطر على الجميع: إلى أين سنذهب؟ وكيف؟.»
بعد مضيّ تسعة أشهر من الحرب، كان الجميع ينتظر ساعة الحسم في الخرطوم، بقناعة، وإن كانت مُتردّدة، تشي على الأقل بأن المعركة لن تطرق أبواب ولاية الجزيرة، خاصة وأن الاشتباكات المباشرة قلّت في العاصمة. مع ذلك، ومع عدم وجود أي مظاهر للجيش في أبو حراز، وتوغل قوات الدعم السريع في الأزقة الضيقة للمنطقة، أمر قادتها الأُسَرَ التي تقطن بالقرب من شارع مدني الخرطوم الشرقي بإخلاء منازلها، واحتلّوها بالكامل.
«أنا وأسرتي كنا ضمن تلك الأُسَر. ومن هنا بدأت رحلة نزوحنا النفسية والجسدية. الأولى لأسرتي، والثانية بالنسبة لي بعد النزوح من الخرطوم إلى الجزيرة .»

محطات النجاة
متحدثة ل «أتَر »، قالت أمل إنهم عبروا محطات عدّة أثناء رحلة النجاة: «بلغنا بعضها بشقّ الأنفس ». أولاها كانت قرية الناجي، التي تبعد حوالي عشرين كيلومتراً من أبو حراز، حيث تجمَّع عددٌ ليس بالقليل من الأسر. جميع النقاشات قادت إلى الخيارات بين صعوبة والتكلفة العالية لشراء زيارة إلى المملكة العربية السعودية، والأسعار الفلكية لتأشيرات مصر بعد انتظار شهور ليست بالقليلة.
«اخترنا، لاعتبارات الميزانية، وعدم اكتمال الأوراق الثبوتية لبعض أفراد الأسرة، مصر كوجهة، ولكن عن طريق التهريب، الذي كثر الكلام عنه مؤخراً وسط سودانيّي الداخل، وكثرت المخاوف أيضاً، خاصة مع وجود أطفال وكبار سن في وضع صحي حرج بين معظم الأسر التي التقت في قرية الناجي .»
الناجون من الحرب ممن طرقوا سبيل التهريب إلى مصر كانوا مرشداً ضرورياً في رحلة البحث عن نجاة لمن جاءوا بعدهم. «خرجنا من منطقة الناجي على عربة نقل كبيرة «دفّار جامبو ». سلكنا طريق أم القرى- الفاو التُرابي غير المُعبّد والطويل نسبياً إلى القضارف، مروراً بارتكاز دعم سريع في قرية «أربعين » بمحلية أم القرى، حيث أشار أحد ركاب الجامبو إلى أنهم يتبعون لقيادة «كيكل ». جاءت أسئلة جنود الدعم السريع مقتضبة، بينما هم يُلقون نظرة سريعة داخل العربة، قبل أن يتركونا نذهب في طريقنا. محطتنا التالية كانت عطبرة، التي بلغناها بعد قضاء ما يقرب الأربع وعشرين ساعة بسبب حظر التجوال المفروض في الحركة بين المدن والولايات. وصلنا ميناء عطبرة البريّ ووجدناه محتشداً بالحقائب والأسر الهاربة من ويلات حرب الجزيرة. جميعهم في شبه اتفاق ضمني على الوجهة القاهرة تهريب.»
في ميناء عطبرة البريّ تصطف العربات وتنادي علناً لمن يرغبون الذهاب إلى مصر، ويمكن لمن يرغب في عبور الحدود هرباً الاختيار بين عربات النقل الصغيرة (البكاسي)، وعربات الركّاب (الشرائح) والعربات الصالون، كما توجد لافتة صغيرة فوق أحد المكاتب مكتوب عليها «عطبرة- أسوان .»
تقول أمل إن أسرتها اتفقت برفقة أسرة أخرى مع سائق عربة نقل «بوكس ،» وقد نُصحوا به لخبرته بالطريق حتى القاهرة. «وفي أبو حمد التقينا بالسائق محمود، الذي أرسل تسجيلاً صوتياً يتحدّث فيه عن تخزين الشحنة -ويقصدنا- في فندق في أبو حمد لمدة يومين، قبل أن تتحرك الشحنة ناحية «الأبيار » في الحدود السودانية ليستلمها سائق آخر سيكون قد وصل إلى الحدود قادماً من رحلة سابقة إلى مصر. وصلنا الأبيار في مساء اليوم الثالث، حيث قضينا ليلة قاسية بسبب شدة البرد، والانتشار الكثيف للذباب والأوساخ وفضلات البشر. التقينا هناك بالسائق إبراهيم، قادماً من مصر مُحمّلاً بما يقارب الأربعين برميل وقود في عربة نقل (بوكس) بكابينة واحدة ومتهالكة. لا يرغب أصحاب العربات في استخدام عربات جديدة داخل حدود مصر خوفاً من مصادرتها رغم المبالغ العالية التي يتقاضونها من الركاب، وتصل إلى 350 ألف جنيه سوداني للفرد الواحد من أبو حمد حتى مشارف أسوان. وفي الحدود جرى تبادل الشحنات بين السائقين: 20 برميل وقود مقابل شحنة أخرى قوامها عشرة أشخاص وحزنهم .»
من عطبرة هناك طريقان يختار بينهما الناجون، وكلاهما من الطرق القديمة للتهريب يعرفها المهربون بين الدولتين. يتجه الأول إلى أبو حمد ثم الحدود، بينما يسلك الثاني صوب سيدون والحدود. يصدف أن يتفق سائق العربة داخل الحدود السودانية مع السائق الذي يستلم الركاب 45 عند الحدود، لكن في كثير من الأحيان يُترك الأمر لمجرد الصدفة والتفاوض. يعرف السائق الأول أن سائق العربة التي تجلب الوقود تهريباً من مصر يودّ كسب مزيد من المال لتهريب البشر؛ وفي هذا يقع كثيرون ضحية مزايدة السائقين وجشعهم. ووفقاً لبعضٍ ممن طرقوا هذه الدروب، فإن طريق «سيدون » يستقلّه فقط السائقون من قبيلة الرشايدة، بينما يقود الزبيدية عبر طريق أبو حمد. «يتحدّث السائقون عن وجود ما يشبه الاتفاق الضمني بين من يمتهنون مهنة التهريب أو يمتلكون المركبات المُستخدمة في التهريب »، أخبرت ناجية مراسل «أتَر .»
مرحلة أخرى من الرحلة، مختلفة في طبيعتها، تبدأ مع دخول الحدود المصرية؛ مرحلة سِمَتها السرعة الجنونية في القيادة، والتضاريس بالغة الخطورة، وكثافة الغبار، والبرودة القارسة.
«حذّرَنا السائق قبل التحرك قائلاً إنه لن تكون هناك وقفات لأن السلطات قد تصادر المركبات في حال التقينا بهم، وذلك في منطقة تقع بين الأبيار والكسّارات في مدخل مدينة أسوان. لم يمنع ذلك بضع وقفات سريعة، يلقي فيها السائقون التحايا بينهم، ويتبادلون أخبار الطريق.»
تتذكر أمل أنه كان من السهل ملاحظة أن المركبات المتجهة إلى مصر تكون مُحمّلة بالبشر بينما تمتلئ العربات القادمة من مصر ببراميل الوقود. «وصلنا وأسرتي إلى منطقة الكسّارات، ومن ثم مدينة أسوان. مررنا خلال هذه المرحلة من الرحلة بمحاولات عديدة للاستغلال المادي، من قِبل أصحاب العربات لإقلالنا من الكسارات وحتى أسوان، ومن قِبل أصحاب الاستراحات والغرف؛ لكن هذا لم يُقلِّلْ من سعادتنا الكبيرة بالنجاة. واكتشَفْنا لاحقاً بعد وصولنا إلى العاصمة المصرية، القاهرة، ولقائنا أسراً أخرى من معارف وأهل، أننا كنا أوفر حظاً من كثيرين عانوا مصاعب وتجارب بالغة السوء .»
«في أسوان لم يسأل أصحاب مكاتب البصات عن أوراقنا، وما إذا كان دخولنا مصر قانونياً. اشترينا التذاكر، بقيمة 550 جنيهاً مصرياً للفرد من أسوان إلى القاهرة. وعند جلوسنا على المقاعد وجدنا جميع ركاب الباص سودانيين
كانت الحكومة المصرية قد أقرّت في يونيو الماضي مشروع قانون يُلزم اللاجئين وطالبي اللجوء بتوفيق أوضاعهم طبقاً لأحكام القانون خلال عام من تاريخ العمل باللائحة التنفيذية. ولأجل توفيق أوضاعهم، يتعيّن على كل من يدخل مصر عن طريق التهريب التسجيل لدى مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. وحسب بيانات المفوضية، فإنه بداية من أكتوبر 2023 أصبحت الجنسية السودانية هي الأكثر عدداً بين جنسيات مقدمي طلبات اللجوء في مصر. وبلغت أعداد المسجلين لدى المفوضية حتى 31 ديسمبر 2023 م، 207,833 لاجئاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى