سودان ما بعد الحرب 4: الإصلاح الإداري والسياسي

الصاوي يوسف

يعاني الجهاز الإداري والخدمة العامة من التسيب والفساد وتدنى مستوى الخدمة للمواطن. وقد جرت محاولات عديدة للإصلاح منذ العهد المايوي، مروراً بمحاولات الطيب إبراهيم محمد خير أوائل عهد الإنقاذ وحتى اليوم. ويزداد الأمر في الواقع سوءاً باستمرار، إلا من إشراقاتٍ نادرةٍ جدا. وقد استفحلت المشكلة حتى باتت أقرب لأن تكون غير قابلة للإصلاح، واعتاد الناس على ذلك حتى صار المنكر معروفاً والفساد معلناً ومقبولاً والاستقامة جريمة منكرة!

أدوات الإصلاح
من الخطوات المطلوبة والممكنة لإصلاح الخدمة العامة وجود رقابة شعبية حقيقية، وذلك ليس فقط عبر أجهزة مثل المجالس التشريعية في الولايات والمحليات، وإنما أيضاً عبر فتح قنوات مباشرة بين المواطن وبين المسؤول الأعلى في كل مجال (والي، وزير، معتمد، مدير الشرطة، مدير مؤسسة كبرى، رئيس الدولة) ووجود آلية ميسرة للشكوى والمتابعة، والأفضل أن تكون إلكترونية (موقع يسهل الوصول له أونلاين) وعبر البريد الالكتروني، إضافة إلى صندوق شكاوي حقيقي في مكان تقديم الخدمة نفسه، يطّلع عليه المسؤول الأول مباشرة وليس عبر سكرتاريته. ومن الوسائل الممكنة استخدام الوسائط في عملية تجميع الآراء والمعلومات (crowd-sourcing) مثل صفحات تطبيق فيسبوك وتويتر (X) وغيرها.

ومن أهم الآليات إنشاء جهاز مستقل للرقابة والمتابعة والشكاوي (أمبودزمان) تكون له سلطة على جميع مؤسسات الخدمة العامة، مثله مثل جهاز المراجعة، أو جهاز الأمن، أو النيابة والشرطة، أو جهاز الحسبة العامة. ومثل ذلك الجهاز يتلقى الشكاوي، أو يكتشفها بنفسه من خلال متابعته للصحف والإعلام الجماهيري ومواقع التواصل وغيرها، ويتابعها ويحقق فيها ويذهب ليراها بنفسه وليقبض على المخالفين متلبسين، ويقوم بالأمر بتصحيح المخالفات في وقتها ويضع من النظم ما يمنع تكرارها. ومثل هذا الجهاز موجود في دول عديدة بأسماء مختلفة، أكثر من 120 دولة حول العالم، ولكنه يؤدي نفس الوظيفة، مع العلم أن تلك الدول لم يبلغ فيها الفساد والتسيب والفوضى والانهيار ما بلغته الخدمة العامة في السودان.

ومن الوسائل المهمة لإصلاح الخدمات وتسهيلها وتسريع إجراءاتها، تطبيق نظم الحكومة الإلكترونية في كل المجالات الممكنة، وقد صارت الاتصالات الآن سهلة ومنتشرة في جميع الأصقاع، وغالبية السكان الراشدين يستخدمون الهواتف الذكية، وحتى الهواتف العادية تصلح لتطبيق نظم الدفع والتحويل عبر الهاتف، كما هو في تجارب دول مثل كينيا وتنزانيا ويوغندا ورواندا، ويمكن استخدام تطبيقات لحجز المواعيد في مختلف مؤسسات الخدمة، وفي تجديد الأوراق الرسمية كالجوازات والرخص والتراخيص، وفي توثيق المعاملات والمبايعات وتسديد الفواتير والالتزامات المختلفة، ويمكن الاستفادة من تجربة السعودية التي تقدمت كثيراً في هذه التطبيقات. مثل هذه النظم تضمن لنا إلغاء الوساطات والفساد والمحسوبية، بجانب تسهيل الخطوات والإجراءات، وتقليل الزحام في المكاتب وحتى في الشوارع والمرور.

ومن الخطوات المهمة في إصلاح الخدمة العامة، إصلاح نظام الضرائب، ولعله أهم جهاز في الدولة لأنه جهاز الإيراد الرئيسي لأي بلد. وبجانب تطبيق نظام الرقم الضريبي والملف الضريبي لأي مواطن، وربطه بكافة المعاملات الرسمية والمالية والمصرفية وغيرها، يجب أيضاً تطبيق الربط الكامل بين الرقم الضريبي والمهنة وعنوان السكن ورقم الهاتف وشهادة بحث أو إيجار المنزل، وباقي الخدمات مثل الرخص التجارية، وشهادة ملكية السيارة أو الأعمال التجارية أو الأراضي، ورقم جواز السفر. مثل هذه النظم مطبقة في الدول المتقدمة منذ سنوات عديدة، وآن الأوان أن تطبق عندنا بعد انتشار شبكات الاتصال وتغطيتها لكافة أنحاء القطر، وانتشار استخدام الحاسب والهاتف الذكي وغيره من الأجهزة، حيث يستحيل حينها التهرب من الضريبة، كما يستحيل ممارسة أي عمل أو تعامل مالي أو تجاري دون علم سلطات الضريبة. ويمكن أيضاً من خلال الربط الشبكي الإلزامي للمحال التجارية كلها، وإلزامها باستخدام أجهزة الفوترة الالكترونية، يمكن تطبيق ضريبة القيمة المضافة بما يقارب نسبة مائة بالمائة، إلا لدى الباعة المتجولين من بائعي الخضروات مثلا، وإلا فإن مشترواتهم من الموردين بالنسبة للسلع الأخرى، ستخضع للقيمة المضافة مسبقا. لقد طبقت السعودية نظام ضريبة القيمة المضافة لأول مرة خلال وباء الكورونا في العام 2020، وتم تطبيق النظام الإلكتروني الأوتوماتيكي خلال شهور قليلة في كل أنحاء البلاد. كما يساعد ذلك النظام أيضاً في تسجيل وضبط الوجود الأجنبي، من خلال تسجيل أرقام الهاتف والعناوين وحركة الأموال والممتلكات الأخرى.

الهياكل الإدارية
من أهم خطوات الإصلاح الإداري، هو وجود أجهزة حكم محلي حقيقية منتخبة مباشرة من المواطن، وذلك ليس فقط لأنها معنية مباشرة بأهم خدمات المنطقة التي يحتاجها المواطن، كالماء والكهرباء والمدارس والطرق والمساجد ومراكز الرعاية الصحية الأولية والنظافة والتخلص من النفايات، بل أيضاً لأن المواطن يتعامل معها مباشرة وبمعرفة لصيقة بأشخاصها ووظائفها، وينتخبها مباشرة بناء على معرفة شخصية، ودون شعارات سياسية مضللة ولا هتافات أيدلوجية ولا “سواقة بالخلا” و”خم وكوار” بالجملة. إن لجنة الحي أهم كثيراً من البرلمان، ولجنة المحلية أهم من الوالي والرئيس، ويمكن من خلالها سماع الصوت الحقيقي للمواطن دون تزوير ولا تزييف. ومن أهم ميزاتها أن انتخاب لجان الأحياء والمحليات لا يحتاج إلى إحصاء سكاني قومي، ولا إلى ميزانيات بملايين الدولارات، يتعلل البعض بعدم وجودها للهروب من استحقاق الانتخابات العامة، كما أنها لا ترتبط بما يجري في باقي المناطق، فإذا تعذر إجراء الانتخابات في محليةٍ في جنوب دار فور مثلاً، فإن ذلك لا يمنع قيام الانتخابات في أمدرمان أو عطبرة أو بورسودان. إن انتخابات لجان الأحياء (والقرى) ومجالس المحليات هو أمر ميسور وهو الأمر الذي يهم المواطن أكثر من اهتمامه بانتخابات الرئيس والبرلمان القومي، وهو تجربة ممتازة و”بروفة” للانتخابات القومية حين يحين أوانها وتتوفر لها الظروف والمعطيات الملائمة، وهي لا تحتمل الانتظار لارتباطها كما ذكرنا بخدمات المواطن اليومية والحياتية. هذه اللجان والمجالس ستكون عيناً ساهرة للمواطن تراقب الخدمة العامة وتكشف فسادها حيثما وُجد وتتعامل معه من موقع المسؤولية والمؤسسية، إذ أنها تملك السلطة والأدوات المادية والخط المباشر مع السلطات الأعلى، التي يجب أن يلزمها القانون بالتعامل بجدية مع سلطات وصلاحيات اللجان والمجالس المحلية والاستجابة لها والخضوع لخياراتها. وتزداد الحاجة لهذه اللجان في مرحلة ما بعد الحرب مباشرة، في حصر الخسائر وحصر وتسجيل المساكن والسكان، وتطهير المنطقة من مخلفات الحرب وركامها.
ونسبة لوجود مطالبات متكررة وقديمة بإعادة نظام الأقاليم، فإن استحالة إلغاء الولايات القائمة وإعادة تتبيع المواطنين فيها لعواصم بعيدة عنهم لتسيطر مرة أخرى على كل السلطات، يجعل من الضروري ابتكار شكلٍ إداري جديد على مستوى الإقليم دون أن يكون مستوى حكم وسلطة، على غرار نظام المحافظات في هولندا. حيث أن مستوى الحكم الحقيقي هو البلديات، وتُجمع البلديات في كل إقليم في جهازٍ تنسيقى يقوده مفوّض، ومجلس استشاري مصغر. وذلك للحاجة إلى التنسيق في بعض المشروعات العابرة للبلديات، مثل الطرق وقنوات الري. ويمكن في السودان تطبيق نظام إقليمي يكون فيه مستوى الإقليم هو مستوىً تنسيقياً بين ولايات الإقليم، بقيادة حاكم أو مفوض، ليس معه أي جهاز تنفيذي، بل مجرد مجلس استشاري مصغر، مكون من ولاة الولايات التابعة له، وشخصين أو ثلاثة يختارهم المجلس التشريعي للولاية من بين أعضائه، وبذا نضمن وجود التنسيق في السياسات الكلية للإقليم وليس في العمل التنفيذي والخدمي، فكّر مثلاً في التنسيق في تشييد الطرق وشبكات الطاقة العابرة للولايات، وفي وضع المناهج الدراسية المحلية وتحديد التقويم المدرسي وفي المشروعات الزراعية الكبرى إلخ.

الأحزاب
الأحزاب مؤسسات مجتمع مدني. وهي جمعيات خاصة بأعضائها ولكنها في نفس الوقت جمعيات للنفع العام، وتطرح نفسها للجمهور باعتبارها وكيلاً عنهم في التعبير السياسي، ويجب معاملتها كبقية المنظمات العامة مع التأكد من تطبيقها لصحيح القانون الذي يحكم المنظمات، خاصة فيما يتعلق بالشفافية المالية الكاملة، وتحريم التمويل الأجنبي، وعقد جمعياتها العمومية ومؤتمراتها، مع توثيق كل إجراءاتها عبر جهازٍ رسمي مثل مسجل الأحزاب، حتى يتم التعامل مع القيادات المنتخبة عبر الأجهزة الرسمية للدولة، وتستطيع المحاكم الفصل في منازعاتها حول القيادة القانونية الشرعية، وتتحمل مسؤوليتها كشخصيات اعتبارية لها وضع قانوني. ولا نستطيع تحديد عدد الأحزاب كما يقترح البعض، ولا جدوى من ذلك التحديد أصلاً، ولكن نستطيع وضع عتبة لدخول البرلمان القومي، عند إجراء الانتخابات العامة بنظام القوائم، بحيث لا ينال الحزب عضوية في البرلمان ما لم يجتَزْ تلك العتبة (تتراوح بين 2 الى 5 في المائة) ولا ينال تمويلاً أو مساعدة رسمية في الانتخابات كالوقت المجاني في أجهزة الإعلام. والنظام الأفضل بالطبع هو المختلط بين القوائم الحزبية حتى نضمن دخول الأحزاب الصغيرة للبرلمان بنسبة أصواتها الكلية، وبين الدوائر الجغرافية، حتى نضمن تمثيل كل مناطق البلاد وولاياتها وأقاليمها ومحلياتها، وربما يضاف لهذا قائمة خاصة بالمرأة إذا نص القانون على نسبة معينة للمرأة في مقاعد البرلمان، كما يطالب الكثيرون. مثل هذا النظام سيؤدي لاستقرار الممارسة السياسية، حيث تركز الأحزاب على كسب المواطنين ليس فقط لعضويتها وإنما أيضاً للتصويت لمرشحيها وقوائمها وبرامجها، ويضمن لنا وجود أحزاب حقيقية لها جماهير ونواب في مختلف المجالس، وتذوب وتتلاشى الأحزاب الوهمية التي هي مجرد أسماء في الوسائط، دون ضجيج ودون حظر ومطاردة.

النقابات
من أهم وسائل الإصلاح الإداري والسياسي، هو إصلاح النقابات. وذلك لأنها عادة تلعب أدواراً لا علاقة لها بالعمل النقابي من ناحية، وتُستخدم مطية للقوى السياسية من ناحية أخرى، خاصة تلك القوى التي لا تملك سنداً جماهيرياً، فتحتال بسرقة إسم النقابات وصوتها لتمارس أجنداتها الخاصة التي تسعى للكسب الحزبي والذاتي. إن المطلوب تعديل قانون النقابات بما يرضي أصحاب تلك النقابات، على أن يتم الفصل بوضوح بين النقابة كمؤسسة تمثل العمال أمام صاحب العمل، وبين الجمعيات والمنظمات المهنية، إذ أن هناك خلطاً شنيعاً بين هذين الجسمين. فنقابة الأطباء مثلاً، لا تكون نقابة إذا ضمت كافة أطباء البلاد، لأن المخدّم ليس واحدا. فهناك أطباء في القطاع الخاص، وأطباء يعملون في التعليم العالي، وأطباء في الجيش والشرطة والأمن، وأطباء مغتربون في الخارج، وأطباء لا يعملون لدى مخدّم أصلا، وإنما يعملون لحسابهم الخاص في عياداتهم الخاصة فقط. فهؤلاء قد تجمعهم المهنة وضرورة ترقيتها، وتطوير مجالهم علمياً وأكاديمياً ومهنيا، ووضع قواعد ضبط المهنة وترخيص ممارستها، تلك القواعد التي يتولاها في السودان المجلس الطبي السوداني، وليس كما في أمريكا حيث تتولاها الجمعيات المهنية. ففي هذه الحالة تقع هذه الاختصاصات ضمن الاتحاد المهني للأطباء وليس النقابة، فالنقابة هي نقابة الأطباء العاملين لدى وزارة الصحة فقط. وينطبق نفس الشئ على نقابة المعلمين العاملين لدى وزارة التربية، ولكن معلمي القطاع الخاص، وهم قرابة 50 في المائة من أعداد المعلمين، يجمعهم مع أولئك ليس النقابة وإنما الاتحاد المهني المعني بتنظيم المهنة وترقيتها، وتطوير المهارات، وإجراء امتحانات ممارساتها، وتسجيل المعلم المهني في سجل الممارسة بعد حصوله على الرخصة. ونفس الشئ ينطبق على الصحفيين، حيث يجمعهم جميعا الاتحاد المهني المعني بضبط المهنة وترقيتها و تحديد معايير ممارستها وإجراء امتحانات القيد ومنح الترخيص المهني، أما النقابات فهي تختلف باختلاف المخدم، ولا يمكن أن يجتمع من يعمل في صحيفةٍ معينة، مع من يعمل في وكالة الأنباء الرسمية أو وزارة الإعلام، مع من يعمل مراسلاً لمؤسساتٍ أجنبية، مع من يعمل لدى الإذاعة والتلفزيون إلخ، لا يمكن أن يجتمعوا في نقابة واحدة، كما هو الحال في إحدى الجمعيات المحدودة العضوية التي تسمي نفسها نقابة الصحفيين وتجمع أشتاتاً قليلة من العاملين في مؤسساتٍ مختلفة، حتى دون الخضوع لشرط وجودهم في سجل الصحفيين المهني.
كانت هذه نقاطاً عامة حول الإصلاح الإداري والسياسي، وسوف نتناول في مقالات قادمة بعض هذه الجوانب بتفصيل أكثر.

Exit mobile version