(التفكير في الهجرة)
في الحلقة السابقة سألت: كيف سمحت لنفسي بالتفكير، مجرد التفكير، في الهجرة؟
والإجابة البسيطة عندي هي أنه قد كان لأحداث (اليوم الأسود) وما تلاها من مواقف وأحداث وحوادث، دورها الحاسم في دفعي دفعاً للتفكير في الهجرة.
فمن نتائج ذلك اليوم المشئوم فقدت هواتفي وبفقدها فقدت التواصل مع العالم من حولي ومع الأهل والأقارب والأصدقاء أطمئن عليهم وأطمئنهم علي.. استمع إلى أصواتهم فتنقشع من أمام عيني غيوم الوحشة وأتخيل وجوههم الجميلة الطيبة فتهون علي أمر الوحوش القميئة التي تحوم من حولي.
ومن نتائج ذلك اليوم المشئوم فقدت جهاز (اللابتوب) فهو أهم ما ملكت من أجهزة إذ أنه كان خزينتي ومعملي الذي كنت أقضي فيه سحابات نهاراتي وأطراف ليالي أعكف فيه على إعداد كتاب كبير عن تاريخ الحركة المسرحية في السودان أجمع وأوثق فيه ما كتبت أو كتب الآخرون وكنت قد بدأت الاشتغال فيه قبل ما يربو على العام الكامل. وبفقد الجهاز فقدت الكتاب وفقدت أصول المسرحية التي كنت مشغولاً بكتابتها .
بفقدي لمعملي أصبحت عاطلاً لا عمل لي سوى استقبال عصابات الغزاة والإجابة عن أسئلتهم الغبية المكررة ومشاهدتهم وهم يكسرون أبواب البيوت وينهبون ما خف وغلا ثمنه من محتوياتها ويتركونها مفتوحة لنوعين من العصابات المحلية .. النوع الأول عصابات رجالية محترفة من لصوص المدينة السابقين.. ويقال عنهم أنهم ممن كانوا في السجون وأطلقت الحرب سراحهم.. ويقال – أيضاً – أن الغزاة بعد ما يكتفوا بما نهبوه من البيوت يبيعونها لتلك العصابات ويبذلون لهم الحماية لينهبوا ما شاءوا.. أما النوع الثاني فهي عصابات نسائية تقوم بزيارات صباحية لنظافة البيوت المنهوبة من الملابس وأواني المطبخ .
لقد علمتنا أحداث تلك الأيام أن نراقب الداخلين إلى الشارع ونركز أبصارنا عليهم قبل أن يصلوا في محاذاتنا حتى نجهز أنفسنا لشكل التعامل المناسب.. فإن كانوا يحملون أسلحة نارية فهم من الغزاة ولا بد من الأستعداد نفسياً للإجابة عن أسئلتهم الغبية، وإن كانوا يحملون السواطير فهم من العصابات وهم غالباً لا ينشغلون بنا إن لم نستوقفهم.. وإن كانوا يحملون العصي أو لا يحملون شيئاً فغالباً ما يكونوا من المواطنين العاديين في طريقهم من وإلى زريبة الحطب المجاورة.
في ذات صباح وكنا كالعادة تحت الشجرة شلة من ما بقي من سكان الحي.. ظهر من على البعد رجل يرتدي لبسة أفريقية ومعه صبي لم يتجاوز العاشرة من عمره.. كان الصبي يجر فرع شجرة جاف.. قلنا إنهما يقصدان الزريبة، وعند إقترابهما لاحظنا أن الرجل يدرع سلاحاً نارياً على كتفه.. وقف الرجل ومن خلفه وقف الصبي الذي كان يبدو عليه أنه إبنه.. مد الرجل سلاحه في مواجهتنا وصاح فينا بلهجة أمدرمانية واضحة:
– أقيفو على طولكم
– (وقفنا)
– إنتو متلمين كدة مالكم؟
– دي بيوتنا
– ليه ما مرقتو زي الباقين ؟
– نمرق نمشي وين ؟
لم يجب على السؤال وانصرف نحو السيارة المركونة في قفص في الشارع ثم وجه كلامه إلى :
– أمشي دور العربية دي جيبا لي هنا
– العربية دي ما بتتحرك
– أنا بحركا
– حركا
– جيب المفتاح
– ما عندها مفتاح
– في عربية ما عندها مفتاح؟ بطل الكلام الكتير وطلع المفتاح
– يا أخي تفتكر العربية دي لو بتتحرك كان قعدت هنا لحدي هسع ؟
– أفتحو لي القفص دا
فتحنا له القفص دخل وحام حول السيارة ولم يفهم شيئاً وخرج غاضباً وصاح في وجوهنا :
– إنتو الظاهر ما بتجو بالحسنة .. إتحركو قدامي
– نمشي وين ؟
– الإرتكاز
تحركنا معه لكنه استوقفني :
– إنت يا حاج خليك هنا
ذهب الجميع أمامه والصبي من خلفهم يتلفت مرعوباً.. كنت أراقبهم في إشفاق حتى اختفوا عند شارع الأسفلت… وقبل أن أفكر في خطوتي القادمة.. ظهر رفاقي.. وعندما وصلوا علمت منهم أن أحد قادة الغزاة قابلهم في الطريق وسأل الرجل :
– أقيف يا زول .. مودي الناس ديل وين ؟
– ديل استخبارات جيش
– يا أخي ديل مواطنين.. أرجعوا ياجماعة
– و إنت ما تمشي خليك قبلك
وفيما بعد علمنا أن هذا الرجل وأبنه من سكان حي مجاور استنفرهم الغزاة للإنضمام إلى قواتهم.. ولما سلحوه جاء من وراء ظهورهم لينهب لحسابه الخاص.
وفي هذا الإطار أذكر أنه ذات يوم ونحن في تجمعنا المعتاد تحت شجرة النيم أن مر بنا رجل في منتصف العمر.. قوي البنية.. شارد الذهن.. مر من أمامنا دون أن يلحظ وجودنا.. راقبناه حتى اختفى.. ثم عاد بعد زمن ليس بالطويل وهو يحمل (مروحة).. هذه المرة لاحظ وجودنا .. وقف وحيانا :
– السلام عليكم يا شباب
– و عليكم السلام
– يا جماعة أنا ما حرامي.. والله العظيم أنا ما حرامي
لم يرد عليه أحد منا فواصل حديثه بصوت متهدج يغالب البكاء
– أنا.. أنا حداد .. والله العظيم أنا لي شهور ما دخلت جيبي ملين حمراء.. بعت أي حاجة في البيت بتراب القروش عشان أأكل أولادي.. أنا عندي أولاد ليهم يومين ما أكلوا .. ف .. ف .. ما كان في طريقة غير أشوف لي خلاطة ولا مروحة ولا أي حاجة.. ما كان عندي طريقة . ( ثم صمت لبرهة قبل أن ينفجر في وجوهنا) أي شلت المروحة دي عشان أبيعا وأشتري ليهم حاجة يأكلوها .. رأيكم شنو ؟ أخليهم يموتو ؟ يعني أخليهم يموتو ؟
رمى في وجهنا السؤال .. لم ينتظر إجابتنا وغادرنا مسرعاً.. أما نحن فقد أصابنا الوجوم فلم نرد عليه ولذنا بالصمت ولم نعلق حتى بعد أن كان قد اختفى.
لم تكن تلك الأحداث وحدها الدافع لتفكيري في هجرة بيتي، فقد تصاعدت الأحداث سريعاً وبدأت تتجه اتجاهات خطيرة.
ونواصل