رأي

سأعيش في جلباب أبي

✍️ بقلم: محمد يوسف العركي

عندما كنا صغاراً، كنا نستنكر بعض تصرفات وردود أفعال آبائنا الكرام، ولا نجد لها مبرراً منطقياً وفق تصوراتنا المحدودة في ذلك الزمان. كنا نعتقد أن الحياة تُدار بالمنطق، وأن كل شيء يمكن تفسيره بالعقل، وأننا نملك من الفهم ما يؤهلنا للحكم على الأمور. لكننا كنا نجهل أن الحياة لا تُفهم إلا حين تُعاش، وأن بعض القرارات لا تُفسر إلا حين نكون نحن متخذيها.

ومع مرور السنوات، ودخولنا منطقة الوعي العمري، وارتداؤنا عباءة المسؤولية، أدركنا كم كانوا محقين في كثير من المواقف والقرارات. أدركنا أن الأبوة ليست مجرد دور، بل هي مدرسة، وأن الأمومة ليست وظيفة، بل هي رسالة. صرنا نردد ما كانوا يقولونه، ونكرر ما كانوا يفعلونه، لا تقليداً، بل لأننا اكتشفنا أنه ما من كتاب اكاديمي يعلّمك كيف تكون أباً صالحا، وما من شهادة تمنحك بصيرة الأم المثالية.

في زمنٍ يُقاس فيه النجاح بعدد الشهادات، ننسى أن هناك علوما لا تدرّس، وحكمة لا تُكتب، وتجربة لا تُختصر. فكم من موقف احتجنا فيه إلى بصيرة، لا إلى معلومة؛ وكم من أزمة تطلبت منا صبراً، لا سرعة بديهة؛ وكم من قرار كان يحتاج إلى قلبٍ خَبِرَ الحياة، لا عقلٍ امتلأ بالمعادلات.

الآباء لم يكونوا يملكون كل الإجابات العلمية، لكنهم كانوا يملكون البصيرة، وكانوا يملكون التجربة، وكانوا يملكون ما لا يُدرّس في الجامعات: حسّ الحياة. وهذا الحس هو الذي يجعلهم يتخذون قرارات تبدو لنا قاسية حينها، لكنها في جوهرها رحيمة، وتبدو صارمة في تمظهرها، لكنها في حقيقتها ملأ حميمية

إنني اليوم أعتز أنني أعيش *في جلباب أبي*، لا لأنه جلباب ماضٍ، بل لأنه جلباب حكمة، وتجربة، وحنان، وصرامة حين تستوجب الحياة ذلك. فكلما تقدم بنا العمر، كلما أدركنا أن الحياة لا تُفهم بالعقل وحده، بل بالقلب، وبالخبرة، وبالزمن الذي يكشف لنا أن الآباء الصالحين كانوا دائماً على حق في جل المواقف، وإن لم نفهمهم حينها.

خبرة الحياة هي الجامعة الكبرى، وهي المدرسة التي لا تغلق أبوابها، وهي المعلم الذي لا يتقاعد. هي التي تُخرج لنا رجالاً ونساءً يعرفون كيف يعيشون، لا فقط كيف يُفكرون. فليتنا نُعيد الاعتبار لتلك الحكمة التي لا تُمنح، بل تُكتسب، ونُدرك أن في جلباب آبائنا ما يستحق أن يُلبس بفخر، لا أن يُخلع بحثاً عن الجديد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى