صديق محمد عثمان
– الساعة الحادية عشر ليلا وانت على طريق المرور السريع متجها إلى منزلك .. فجاة تبرق اضاءة متقطعة على طبلون سيارتك لان بطارية السيارة قد وصلت إلى الاحتياط ( battery on reserve ) .. تشاور عقلك ان كان شاحن البطارية بالمنزل سيكفي لمشوار الصباح ام ينبغي عليك الانعطاف نحو احدى خدمات الوقود والشحن والتأخر نصف ساعة اخرى للاطمئنان على شحن السيارة ..وتختار الخيار الاخير وتخرج من طريق المرور السريع نحو اقرب خدمة وقود .
– الوقت متاخر والليل مظلم والمطر ينهمر ليضيف إلى اجواء مدينة الضباب طبقات من الكآبة الشتائية .. وفجأة في هذا الطريق الجانبي الموحش المتفرع عن طريق المرور السريع وسط غابات ومحميات طبيعية .. تلمع انوار سيارة اسعاف تخرج من وسط الغابات حيث يوجد بيت لرعاية كبار السن وتتهادى سيارة الاسعاف بجانبك في الاتجاه المعاكس صوب طريق المرور السريع وتستمر انت في طريقك نحو محطة الوقود والشحن الكهربائي وفي بالك سيارة الأسعاف تلك.
– وفي صباح اليوم التالي تصحو باكرا وتتجه إلى المدينة حيث عملك وعند مدخل المدينة تبدا الحركة بالبطء حتى تتوقف تماما، تدير موشر راديو السيارة من القناة الرابعة لاذاعة البي بي سي الإخبارية إلى قنوات سريعة الإيقاع حتى يتوقف الموشر عند محطة تنقل اخبار الحركة والمرور كل ١٥ دقيقة وتستمع إلى وجود حادث على الجزء المرتفع من طريق المرور السريع الداخل إلى لندن من مطار هيثرو M4 .. تضطر إلى مفارقة الطريق بحثا عن منافذ اخرى وتجد نفسك تزحف عند الدوار الذي يضم محطات همرسميث لقطارات الانفاق والباصات ولا تكاد تتخطى اشارة مرور حتى تقع في شراك اختها .. فهنا استهلك مخططو المدن كل أنماط التفكير واستدانوا من مصرف التحايل ليصنعوا دوار مرور يشبه النباتات الفطرية تتعرج مداخله ومخارجه بين البنايات التي تحيط بمحطتي الانفاق وموقف البصات.
– وبينما انت في احدى اشارات المرور تلمح اما تجر طفلها جرها وهي تحمل باليد الاخرى اغراضه التي بينها حقيبة ظهر صغيرة وصندوق طعام غداءه وترفع راسك لتقرأ لافتة جانبية تجاور لافتة كبيرة تحمل اسم محطة انفاق همرسميث ( روضة وحضانة قوس قزح) … يا الهي .. هل ما زالت هذه الجريمة مستمرة ؟! فمنذ قرابة العشرين عام كان اول شيء لفت نظري في محطة انفاق همرسميث هو وجود روضة وحضانة في المبنى الذي يجلس فوق محطة الانفاق مباشرة وكان الامر حينها غريبا بالنسبة لي .. فلو قيل لي ما هو انسب استخدام لمبنى كهذا يقع فوق شبكة قطارات انفاق ويجاور محطة بصات تخرج منها اكثر من عشرين بص في الساعة الواحدة لقلت بلا تردد ان المبنى يصلح لشي واحد وهو استضافة سجن انتظار لمحكومين بالإعدام لانه مكان صالح لتنفيذ العقوبة بالسرعة المطلوبة !!
– كيف انهزم العقل البشري لدرجة القبول بانتزاع الاطفال من امهاتهم الطبيعيات والعهدة بهم إلى سيدة فلبينية تركت هي الأخرى ابناءها في مراحل دراسية مختلفة وحضرت او احضرت إلى لندن عن طريق وكالات العبودية الحديثة التي يطلق عليها وكالات التوظيف ؟! ولماذا لا يفكر الشخص الذي يملا بيانات حسابه البنكي على موقع ادارة مواصلات لندن ليدفع يوميا ١٥£ قيمة مساهمته في التلوث المناخي باستخدام وسط المدينة ، لماذا لا يفكر .. وماذا عن طفلي الذي وضعته الحكومة في حضانة وروضة فوق محطة قطارات انفاق يستنشق ما يكفي لقتل أفيال غابات اسيا ؟!
– الخمسة أعوام الاولى من عمر الانسان في لندن يقضيها في مخزن فوق محطة قطارات انفاق … والعشرة أعوام الاخيرة يقضيها في بيت رعاية عجزة محشور في غابة معتمة ورطبة ومظلمة جدا مع مجموعة من اقرانه الذين يحاول التعرف عليهم وتختلط عليه ذكرياته مع اخرين في مراحل الدراسة والعمل ويحاول الإمساك بها من خلال تغيير أبطالها بهولاء الرفاق الجدد … اما الخمسين سنة التي تتوسط هاتين المرحلتين فهو تور في ساقية لا يكاد يتناول البرسيم والعلف ويتجرع فنجان القهوة ويمسح عن جبينه الرهق حتى يربت زميله على كتفه ليتولى عنه ادارة ترس الساقية حتى يتمكن من قضاء حاجته .
– قال الشاعر نزار قباني:
– عرفت حضارة الغرب
– عرفت حضارة التعب
– عرفت نساء أوروبا
– عرفت مشاعر الإسمنت والخشب