خليل فرح في ذكراه السنوية .. شاعر مغني نحت إسمه في سجل مبدعي الاستنهاض الوطني
الأحداث – أبوذر الغفاري بشير
تمر هذه الأيام الذكرى السنوية لرحيل الشاعر المغني خليل فرح أفندي، وهي ذكرى تستحق الاحتفاء بالنظر لأعمال الخليل الثقافية الموحية وإسهامه السياسي، فهو أحد الأعلام الذين تركوا بصمة مميزة على الوجدان السوداني لا تمحى، وكانت مساهمته على نحو كثيف، في تشكيل المزاج العام بأشواقه للحياة وتوقه للحرية، وقد غادر دنيانا في 30 يونيو 1932، بعد حياة حافلة بالفعل الإبداعي الزاخر في عدة آفاق.
ولد خليل فرح عام 1892 وعاصر انكسار الحلم السوداني بعد ستة أعوام من مجيئه للحياة، بهزيمة الدولة المهدية في كرري عام 1898 وتمدد الحكم الغازي على ربوع البلاد. وقد ظلت هذه الصورة حاضرة في أشعاره، واستغلها مفردة في التبشير بوطن جديد، ومنطلقاً لبلد شامخ يحلم به، دون أن يخوض في تفاصيل أداء المهدية من ناحية سياسية ومكامن الاختلاف والاتفاق معها.
في يمين النيل حيث سابق
كنا فوق أعراف السوابق
الضريح الفاح طيبه عابق
السلام يا المهدي الإمام
ارتبطت مودة الخليل بمدينة أم درمان، وامتزجت بقادة المهدية الذين أسسوها، وأودعوا فيها من المثل العليا ما يمثل جذوة الروح السودانية.
بطرى الأسسوك زمان
كانوا نحاف جسوم ما سمان
كانوا يحلحلوا الغرمان
يساهروا يتفقدوا الصرمان
والناظر في شعر الخليل يلحظ اهتماماً خاصاً بالروح الأمدرمانية، وأحيائها وحواريها رغم أن شعره يعكس ثقافة عالية بمدن السودان المختلفة وسهوله وهضابه. وقد ساعده على عكس ذلك التنوع، ترحاله الذي تمدد في ربوع البلاد، وتنقله بين أقاليمه وقبائله.
ويقيني أن أم درمان التي تغنى بها الخليل ليست سوى رمز من رموزه التي شحن بها أشعاره وأغانيه وعبر بها عن الروح السودانية الوثابة التي ترتكن إلى مزيج متنوع من الشعوب وثقافاتها وعاداتها وهي تتحسس طريقها للتغيير.
اهتم خليل فرح على طريقته بتعليم المرأة وسخر أشعاره في استنهاضها، فذكر في قصيدة (عازة في هواك):
عزة ما اشتهت نوم الحجال ولا السوار بكى وفي يمينها جال
عزة شوفي كيف نهضوا العيال وجددوا القديم صرفوا الخيال
مكنياً عن بالحجال والسوار عن القيود التي قعدت بالمرأة وكبلت خطوها، وقد لعب الخليل دوره المطلوب في حركة تحرير المرأة، وشارك مع بقية المستنيرين من أمثال بابكر بدري في أن تحتل مكانها في سلك التعليم والنهوض. وكتب قصيدة نشرت بجريدة (حضارة السودان) بعنوان (في تعليم المرأة) جاء فيها:
علموها أنها مدرسة
لحياة ما إليها طائل
ودعوها روضة في بيتها
يحسن العلم إليها الوابل
فعلى أبنائها يوماً وإن
خانها الدهر جلال كامل
كما نشر قصيدة أخرى في تعليم المرأة باللغة الدارجة، لعله أراد بها أن تصل معانيها إلى أذن المرأة التي لم تتلق قدراً من التعليم، ومثلها قد لا يجدي معها خطاب بلغة فصيحة.
يلا نمشى المدرسة سادة غير أساور غير رسا
يلا سيبي الغطرسة قومي أفرزي كتب المدرسة
الساعة ستة دقت يام رسا نايمة والمنبه حارسا
دارسه ماك جاهلة محنسة قادلة لي كتابه مؤنسه
حاشا ما تربيتي مدنسة لسه لسه عزك ما اتنسى
كان أثر خليل فرح كبيراً على أمته، فقد نهل من معاهد التعليم الحديث بمعايير عصره، ابتدأه بدراسة القرآن في خلوة الشيخ أحمد هاشم بجزيرة صاي، ثم التحق بسلك التعليم الحديث في مدارس دنقلا، وأم درمان، وتخرج في كلية غردون التذكارية في قسم الهندسة الميكانيكية وعمل بمصلحة البوستة والتلغراف. وبالطبع فإن المعارف التي حصل عليها خلال هذه المسيرة جعلت قدره ثقيلاً في ميزان الإبداع. واستغل قدرته على مخاطبة الرأي العام باللغة الدارجة، وتبدو المفارقة في لغة خليل فرح، في مقدرته على مزج الرمزية العالية والمعاني المغلفة بالخطاب الشعبي السهل والعبارات الجزلة التي تستسيغها الذائقة الشعبية. وعلى سبيل المثال فإن أشعاره الغنائية وعلى رأسها (عزة في هواك) أودع فيها بياناً لمشروع تنويري وحداثي متكامل بلغة غنائية سهلة مما جعلها مثالاً للوطنية والروح الوثابة للانعتاق من قيود الاستعمار والجهل والتخلف. ولا غرو أن تحتل أغنية (عزة في هواك) مكانة مميزة في ديوان الغناء الوطني وتمثل إحدى تعويذات الروح الوطنية ويتغنى بها عمالقة المطربين السودانيين على امتداد العهد الوطني.
انغمس خليل فرح في النشاط السياسي المعارض للنظام الاستعماري، فانضم إلى جمعية الاتحاد التي أنشئت عام 1921 وتبلورت شعاراتها حول وحدة وادي النيل وضرورة توحيد جهود شعبي وادي النيل في سبيل التحرر. وتعد هذه الجمعية الأساس للأحزاب الاتحادية التي ساهمت جهودها في ختام المطاف في استقلال السودان. وبعد اضمحلال جمعية الاتحاد توجه نشاطه إلى جمعية اللواء الأبيض بقيادة علي عبد اللطيف وعبد الفضيل الماظ، وكانت أشعاره اللسان المعبر عن أدبيات الجمعية ويظهر ذلك في عدد من أشعاره من بينها قصيدة “الشرف الباذخ”:
نحن ونحن الشرف الباذخ دابى الكر شباب النيل
قوم قوم كفاك يانائم شوف شوف حداك يالايم
مجدك ولىّ وشرفك ضلّ وامتى تزيد زيادة النيل
يانزلانا أمرقوا الذمه كيف ينطاق هوان الأمة
شالو حقوقنا وزردوا حلوقنا ديل دائرين دمانا تسيل
من تبينا قمنا ربينا ما تفاسلنا لو في قليل
ما فيش تاني مصري سوداني نحن الكل ولاد النيل
من الصعب تصنيف خليل فرح في قائمة المفكر السياسي، فهو شاعر مبدع ومنفعل بقضايا وطنه استطاع أن يصل إلى مستوى راقي من الوعي بالذات الوطنية وأصولها، ويحول هذا الوعي إلى سلاح من خلال آليات المبدع في التغيير والحوار والدعوة للتغيير. وقد لعب نفس الدور الذي لعبه أبو القاسم الشابي في تونس كمبدع مصلح لا زال صوته يرن، وسيد درويش شاعر ثورة 1919 المصرية والمعبر عن قيمها. فقد كان لكل منهم دور كبير في الدعوة للحياة والتغيير نحو الأفضل.
أشار د. النور حمد في كتابه (مهارب المبدعين) إلى ظاهرة قصر أعمار المبدعين السودانيين وعلى وجه الخصوص الشعراء منهم، ورجح ارتباط ذلك بعدم التصالح مع الواقع الذي أحاط بهم، ومن بين هؤلاء خليل فرح الذي رحل إلى الدار العامرة ولم يتجاوز عمره (38) عاماً، وقد أحصى د. النور من بين 17 مبدعاً مميزاً رحلوا مبكراً (13) شاعراً من بينهم خليل فرح. والذي لا مراء حوله أن خليل مثل درجة عالية من الانفعال بواقعه المحيط وسعى جهده لتطويره من خلال آليات المثقف التي توفرت له، إلى درجة الانخراط في أعمال ثورية وانغمس في الحياة منشغلاً بهموم وطنه وقيمه، وربما قاده هذا إلى مواجهات نفسية بالغة الحساسية تركت أثره على مناعته الجسدية وقدرته على مواجهة الأسقام، وأحالته إلى كائن صعب المزاج متقلب الأهواء.
ما يقارب التسعين عاماً منذ أن غادر الخليل هذه الدار الفانية إلا أن صوته سيظل صادحاً مستمداً قدرته على البقاء من الأصالة والمعاني التي ميزته وقوة الدفع التي علقته بآمال شعبه.