حين ردّت الشابة الوضيئة الأمانة… ومضات في وجه الفساد المقنّع

عبدالعزيز يعقوب
في زمن تتكاثف فيه خيوط الفساد داخل الدهاليز الرسمية، ويُختطف فيه الأمل من أفواه الشباب في وضح النهار، لم تكن القصة التي بطلتها “سمية” مجرّد حادثة فردية، بل صفعة أخلاقية على وجه منظومة ترهلت حتى نسيت معنى “الاستحقاق”.
سمية، شابة سودانية وضّاءة، اجتهدت، درست، ووقفت في طوابير التوظيف كسائر أبناء جيلها. ثم ذات صباح رمادي، جاءها الخبر المُفرح: تم قبولها في وظيفة حكومية وسط منافسة من مئات المتقدمين. فرح الجميع، لكن شيئًا في قلبها لم يطمئن. وحين عرفت أن والدها قد لجأ إلى قريبٍ له نافذ في الدولة ليضمن لها الموقع، انكسرت.
لكنها لم تصمت. ولم تُبرّر. جلست على مهل، وكتبت رسالة إلى مكتب التوظيف تعلن فيها تنازلها الكامل عن الوظيفة، لأنها تعلم أنها لم تأتِ لها بـ”حقها”، بل بـ”وساطة”، وأنها لا تريد أن تبدأ مشوارها المهني على ركام أحلام غيرها.
كان يمكن للقصة أن تُطمس، كما طُمست آلاف القصص من قبلها. لكن المفاجأة أن مدير المكتب استلم الرسالة، صُعق، أجرى مراجعة داخلية، فاكتشف ما هو أبعد من حالتها. لقد تم التلاعب في الترتيب، وتجاوز المرشحون الأعلى تقييمًا، فقط لأن أحدهم يمتلك مفتاحًا سريًا في دهاليز السلطة.
مدير المكتب عقد مؤتمرًا صحفيًا، أعلن خلاله استقالته، محمّلًا نفسه مسؤولية الإخفاق الأخلاقي، ومقدمًا تحية تقدير للشابة التي فضّلت النزاهة على الوظيفة. سابقة نادرة في بلد أرهقته المحسوبيات.
الوزارات العليا استجابت. قُبلت الاستقالة، ودُعيت سمية لتكريم رمزي، لكنه عميق الدلالة. ثم أقيمت ورشة عمل حضرها العشرات من طالبي العمل الذين طال انتظارهم، طُلب منهم أن يفكروا بصوتٍ عالٍ: كيف يمكن إصلاح منظومة التوظيف؟ وكيف يمكن للدولة أن تُنصت لمواطنيها لا لبطانة أصحاب النفوذ؟
هذه الحادثة ليست مجرد قصة ملهمة. إنها مرآة نُطل منها على عمق الأزمة الأخلاقية في منظومة الخدمة المدنية. الفساد لم يعد في “السرقة الصريحة” فحسب، بل في الفساد المقنّع الذي يرتدي عباءة “الحرص الأبوي” و”المساعدة العائلية”، بينما هو في جوهره قتلٌ مؤجَّل لطموحات شعب بأكمله.
ففي بلاد تُقصى فيها الكفاءات لحساب الولاءات، وتُمنح فيها المناصب للمقرّبين لا للمستحقين، تتحول الدولة إلى شركة عائلية، ويتحول الوطن إلى ملكية خاصة.
إن ما فعلته “سمية” لا يعالج جرحًا، لكنه يضع الإصبع عليه. وهو دعوة مفتوحة لكل من تورط، أو سكت، أو استسلم، أن يستعيد صوته.
قد لا تكون كل “سمية” قادرة على المواجهة، لكن حين تخرج إحداهن من الصمت وتردّ الأمانة، فإنها تفتح نافذة للضوء.
وضوء واحد يكفي، إن كان في قلب الظلام.



