حول بيان الحزب الشيوعي المعنون “العمل الجماهيري الحاسم لوقف التدخل الدولي لتقسيم البلاد ونهب مواردها”
محمد جلال أحمد هاشم
أصدر الحزب الشيوعي السوداني بيانه المشار إليه أعلاه، وهو متاح في صفحة الحزب بالفيسبوك.
هذا البيان الصادر عن اللجنة المركزية للحزب، بكل أسف، يعكس الموقف الحقيقي الذي يمر به من الحزب الشيوعي السوداني من أزمة رؤية وأزمة موقف تجاه حرب الوكالة الجارية ضد كيان الشعب السوداني وضد كيان دولته. فهذا البيان، أولا، يتكلم عن الدولة السودانية ومؤامرات تفكيكها، بينما في نفس الوقت يقع في شرك المتآمرين لتفكيك الدولة، ذلك عبر النظر إلى طرفي الحرب بأنهما الجيش مقابل مليشيات الجنجويد. فهذا التصوير هو الأساس المعرفي والأخلاقي لخطة تفكيك الدولة السودانية، ذلك بالحديث عما يجري فيها مع تغييرها وكأنها لم تعد موجودة فعليا. ثانيا يدعو الحزب لوقف الحرب، لكنه لا يعكس لنا رأيه في منهجية كيفية إيقاف الحرب: هل يعني وقف الحرب إعادة شرعنة مليشيات الجنجويد أم يعني إيقاف الحرب المدخل المنهجي لتفكيك هذه المليشيات المجرمة؟ ولا اعتبار هنا لقوله: “… والترتيبات الأمنية لحل الدعم السريع ومليشيات المؤتمر الوطني وجيوش الحركات تحت إشراف الحكومة المدنية …”، ذلك لقوله قبل هذا: “.. وخروج العسكر والدعم السريع من السياسة والاقتصاد …”، ما يعني بالضرورة إعادة شرعنة مليشيات الجنجويد. فإذا اشترط أحدنا خروج مليشيات الجنجويد من الاقتصاد والسياسة، فهذا يعني بالضرورة بقاءها في سمتها العسكري. فهل هذا هو ما يطالب به الشعب السوداني خلال هذه الحرب من حيث رؤيته لوقفها؟ هذا بالإصافة إلى أن الحديث عن إخضاع مليشيات الجنجويد للترتيبات الأمنية يعني بالضرورة شرعنتها.
لقد شارك الحزب الشيوعي في جميع المفاوضات التي أدت إلى تشكيل الفترة الانتقالية، بدءاً من تحالف قوى الحرية والتغيير، مرورا بالمفاوضات مع العسكر والجنحويد، ثم مرورا بصياغة الوثيقة الدستورية التي شرعنت لشراكة الضرار ما بين قوى الحرية والتغيير والعسكر (نفسه الجيش المتهم الآن بأنه جيش الكيزان) ومليشيات الجنجويد (نفسها التي عاثت ولا تزال تعيث الآن فسادا في البلاد والعباد). كما نرى، موقف الحزب الشيوعي هو موقف قحاتي بامتياز، لكنه فقط كما لو كان “زعلان” من قحت، بل وأيضاً “حردان” من العمل معها.
والآن ها هو الحزب الشيوعي يتكلم عن مؤامرات قوى الإمبريالة لتفكيك السودان وتقسيمه، وفي نفس الوقت يستخدم ذات المصطلحات المفخخة التي فرّختها قوى الإمبريالة لتفكيك السودان. ولا يفوت على حاذق أن قوى الإمبريالة إنما تصُكُّ بدقة هذه اللغة الاصطلاحية بغرض بناء خطاب تفكيكي متماسك عبره تنبني سردية مقبولة وطنيا وإقليميا ودوليا لمشروع تفكيك السودان.
فعندما يتكلم الحزب الشيوعي عما يسميه “حكومة البرهان”، ثم يشفع هذا بقوله “المحاور الإقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب” فهذا يعني بالواضح أن الحزب الشيوعي، من جهة، يساوي بين مؤسسة الدولة ومليشيات الجنجويد (التي بالفعل أسستها الدولة نفسها على عهد نظام الكيزان، وشرعنتها قحت بمشاركة الحزب الشيوعي نفسه، في مفارقة صارخة لمطالب الثوار الذين كانوا – ولا يزالون – يرفضون أي شراكة مع العسكر وفي نفس الوقت كانوا – ولا يزالون – يطالبون بحل مليشيات الجنجويد – هكذا “الجنجويد”! بالاسم الحقيقي وليس باسم “الدلع”)، ومن جهة أخرى يعفي كلامه هذا، منطقيا، دولة الإمارات من المسئولية في تشوين مليشيات الجنجويد بالمال والسلاح، ذلك عبر ما يسميهم بالداعمين لكلا الطرفين، ذلك باعتبار مساواة كل ما تفعله هذه القوى. فهل هذا يعني عمليا ومنطقيا وأخلاقيا، بحسب موقف الحزب الشيوعي السوداني، أنه لا ينبغي توجيه أي اتهام للإمارات التي تسلح مليشيات الجنجويد التي تنكّل بالمدنيين وقتلهم بهذا السلاح؟
فلو أن الحزب الشيوعي السوداني كان ينظر فعلا إلى هذه الحرب على أنها مؤامرة لتفكيك السودان، فعندها ينبغي له أن ينظر إلى الحرب على أنها حرب من هذه القوى التي تستهدف كيان الدولة السودانية عبر استخدامها لمليشيات اصطنعتها نفس الدولة. فهنا تقف دول وقوى الإمبريالية مقابل كيان الدولة السودانية، بصرف النظر عمّن يدير هذه الدولة. فالموقف تجاه الوطن هو الموقف نفسه تجاه الشعب، وهو الموقف نفسه تجاه الدولة، ذلك بصرف النظر عن شكل الحكم. فلو قامت دولة.
وعليه، منطقة الحديث عن استهداف قوى الإمبريالة، عسكريا وسياسيا، لمؤسسة الدولة السودانية، عبر أي شكل من الأشكال العسكرية (مثل مليشيات الجنجويد والإمارات) والسياسية (مثل قحت والاتحاد الأفريقي ومنظمات المجتمع المدني) تضعنا أمام طرفين لهذه الحرب، هما كيان الدولة السودانية والشعب السوداني في جهة، ثم قوى الإمبريالة ووكلائها المحليين والإقليميين. هذان هما طرفا هذه الحرب، ذلك طالما أن قوى الإمبريالة تخطط لاستهداف كيان الدولة السودانية وكيان الشعب السوداني. فالمنطق السليم والحس الوطني يفترض أنه عندما تواجه أي دولة مخاطر تفكيكها عبر شن الحرب عليها من قبل قوى الإمبريالة، يبقى أوجب الواجبات الوطنية هي تماسك الجبهة الداخلية بمختلف ألوان طيفها، للالتحام مع الجيش الذي بيدها ليلتحم هو بدوره معها، ذلك بدلا من اعتزال الحرب وتدبيج اللعنات على ما يسمّى بطرفي الحرب، اختزالا لهذين الطرفين في “الجيش” من جانب وفي “مليشيات الجنجويد” من الجانب الآخر.
بكل أسف، ما يقوله بيان الحزب الشيوعي السوداني هو مما يعرف أي سوداني وطني وأمين تجاه ما يجري على الأرض بأنه غير صحيح! ذلك من قبيل قوله: “طرفا الحرب متورطان في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية …”. فإذا سلّمنا جدلاً بأن الجيش ومليشيات الجنجويد هما فعلا طرفا هذه الحرب، فهل هما فعلا قد ارتكبا هذه الجرائم على قدم المساواة؟ فلماذا إذن يهرب الناس من المناطق التي تسيطر عليها مليشيات الجنجويد (طرف الحرب) إلى المناطق التي يسيطر عليها الجيش (طرف الحرب الآخر)؟ لماذا تتجه دالة هروب المدنيين إلى هذا الاتجاه إذا كان الطرفان يرتكبان جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية؟ ففيمن تُرتكب هذه الجرائم؟ أوليست تُرتكب في الشعب؟ فلماذا تتجه دالة هروب المدنيين إلى مناطق طرف بعينه هربا من قدوم الطرف الآخر إذا كان كلا الطرفين متساويين في ارتكابها لهذه الجرائم على المواطنين المدنيين؟
هنا نجد لزاما علينا رفع السؤال التالي للحزب الشيوعي السوداني: في أي المناطق التي يسيطر عليها طرفا الحرب (بحسب بيانه) لا تزال توجد نظامية الدولة Order of State حاليا؟ وإلى أي هذه المناطق هرب غالبية منسوبي الحزب الشيوعي أنفسهم، مثلهم في ذلك كمثل ملايين السودانيين؟ إلى المناطق؟ هل إلى تلك المناطق التي يسيطر عليها الجيش (أحد طرفي الحرب بحسب قول الحزب الشيوعي)، أم إلى المناطق التي تسيطر عليها مليشيات الجنجويد؟
ثم، مع كامل رفضنا وشجبنا لمقتل أي مواطن وهو قيد الاعتقال من قبل الأجهزة الأمنية، أو غير ذلك، ومع كامل مطالبتنا بضرورة تحقيق العدل لكل الضحايا، وهذا من قبيل إشارة بيان الحزب الشيوعي بالاسم لحالة بعينها (الشهيد “الأمين محمد بدر” بكسلا)، لكن هل فات على الحزب الشيوعي أن يدرك أن المغزى العملي لهذه المطالبة المشروعة والضرورية لا مكان لها من الإعراب خارج نظامية الدولة. فنحن في هذه الحالة لدينا شخص بعينه هو الضحية، وكذلك لدينا جهاز حكومي يعينه هو ابنتهم بتجاوز صلاحياته، بل بدينا أسماء بعينها هي المتهمة، بل أكثر من ذلك لدينا مباني وموقع معروف في المدينة هو مباني هذا الجهاز الحكومي. وهذا في حد ذاته يقف كاعتراف ضمني من الحزب بتوفّر هذا الشرط (نظامية الدولة Order of State) حتى تصبح مثل دعوته للعدالة والقصاص في محل الإعراب. وبالمنطق، ومن باب حسن الظن، نعتقد أنه لهذا لم يكن في مقدور بيان الحزب الشيوعي أن يذكر أي حالة من حالات الجرائم الموثقة (مثل القتل الجزافي الفردي والجماعي والقصف العشوائي للأحياء السكنية والمستشفيات، دع عنك جرائم النهب وانتهاك الأشراف، ثم استراق النساء والفتيات واتباع نهج الأرض المحروقة … إلخ) التي تقومبها مليشيات الجنجويد بطريقة يومية، روتينية؟ أم ماذا؟
فهل بعد كل هذا يجوز القول من أي شخص نزيه وأمين ومعايش للأحداث، بالمساواة التامة بين ما ينسبه من انتهاكات ارتكبتها القوات المسلحة السودانية وبين ما ينسبه من انتهاكات ارتكبتها مليشيات الجنجويد المجرمة؟
بكل أسف، هذا البيان لا يكشف عن قصور في الرؤية فحسب، بل يكشف عن انعدام تام لأي رؤية فكرية أو سياسية، ولا يرقى حتى إلى مستوى تقرير صحفي، دع عنك أن يكون بيانا باسم الحزب الشيوعي السوداني. لا غرو أن الغالبية العظمى من منسوبي الحزب قد تماهت مواقفهم في السوشيال ميديا مع مواقف القحاتة الجنجويدية.