حميدتي.. مخاوف قديمة لدى تاجر إبل متقاعد

يظل راعي الإبل على خوف دائم من انتقامها إذا ما أذاها، فالإبل- وفقا لمرويات رعاة الإبل- ينفذ انتقامه قبل مرور أربعين يوما على إهانته أو الغدر به من صاحبه.

وإذا لم ينتقم.. مات كمدا وقهرا.

ولرعاة الإبل هذا الشعور الدائم بأن معاشرة الجمال تختلف عن أي حيوان آخر، فهى تقتضي معاملة حذرة والاستعداد لانتقام وشيك، يتم بعد تخطيط عميق من الإبل.

وتختلط خبرة حدو الإبل ورعايتها مع مرويات غيبية لا تكاد تستبين أصولها بسهولة، تفيد بأن الجمل يخالطه الشيطان ويدخل فى تكوينه الجان، بما يلقى الكثير من الفزع مما يسمى «حقد الإبل» أو «انتقام الجمل».

وفى الوقت ذاته، يقال إن راكب الإبل يميل طبعه للسكون والأناة، من إيقاع مشية الجمل وصبره، وقالت العرب إن طبع الدابة ينسحب لطبع صاحبها مع الوقت.

ظلت تلوح هذه الأفكار وتحوم حولي وأنا أشاهد خطاب محمد حمدان دقلو «حميدتي»، الذى خرج قبل أيام فى قرابة 35 دقيقة، ويتهم فيه الطيران المصرى بدك قواته فى «جبل موية».

فحميدتي بالأساس تاجر جمال، تطور مع مجموعة من رفاقه إلى حام للقوافل من اللصوص، ثم إلى ميليشى سمين، يسيطر على طرق التجارة بين السودان وتشاد، وأحيانا المتجهة من السودان إلى مصر.

إلى أن انخرط فى بنية نظام البشير قائدا لما سمى قوات الدعم السريع، والتي كانت جزءا من التشكيلات المسلحة العديدة التي يتوازن نظام عمر البشير بها ويدير التنافسات بينها لمصلحته.
وكان حميدتي بقواته جزءًا من مآس ومجازر عدة منذ العام 2010 كأول تأريخ يمكن الاستيثاق فيه من ظهور الميليشي الشاب بقواته للعلن.

يحمل «حميدتي» رتبة «فريق»، وهو بالأساس لم يتم تعليمه الأساسى، فيما يذكرك رغما عنك بشخصية «الجنرال» فى رواية ماركيز الأولى «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، والذى كان يعتز فى رسائله العبثية الكثيرة بأن رتبته رتبة ثورية حصل عليها ضمن سياق ثورى فيما اجتاح البلاد من أحداث جسام، لا عبر مسار وظيفي بيروقراطي ترقى خلاله داخل الجيش.

لكن المسألة ليست بهذا التبسيط الذى يغرى بالوقوف عنده والاكتفاء به، والذى قد ينتهى بنا لتشخيص أوجه عبثية الشخصية التى نعاينها، عبر تلسين ثقيل الوطأة، أو حتى سخرية خفيفة الظل.

فخلف هذا الميليشي عقول منشقة تفكر وتدبر، في السياسة والقانون والعسكرية والإعلام، ولربما بكفاءة تفوق نظيرتها لدى الحكومة السودانية ذاتها.

ففي أغسطس الماضى، شارك الدعم السريع فيما سمى «مفاوضات جنيف»، بينما أحجم الجيش السوداني عن المشاركة، وتمكن «حميدتي» من إظهار نفسه كجزء قابل للانتماء للبيئة الدولية، بالمشاركة والقابلية للتفاوض، وبتبنى اللغة العالمية التى تتحدث عن «الأطر» و«الشرعية الدولية» و«المجتمع الدولي» و«الاتفاقات والمعاهدات» و«القانون الدولي».

وفى المقابل رفض الفريق أول البرهان المشاركة فى هذه المفاوضات بتصريحه الشهير «سنحارب مئة عام»، وهو تصريح له وقعه- ربما الإيجابي- عند جماهير السودان المؤيدة للجيش الوطني السوداني أو المناهضة للدعم السريع، لكنه يترجم معنى ذهني في المخيلة الدولية يظهر البرهان كما لو كان متعطشا للدماء، فى حين يبدو حميدتي كرجل سياسة ومفاوضات وقانون!.

وحين تتعالى نبرة الاتهامات للدعم السريع بارتكاب جرائم حرب وفظائع في القرى التي تسيطر عليها قواته، يرسل حميدتي رسالة إلى الوسطاء الدوليين فى جنيف تفيد بإصداره أوامر صارمة لجنوده بالالتزام بحقوق المدنيين، استنادا إلى القانون الدولي الإنساني والمعاهدات والاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان فى حالات السلم والصراع داخل وخارج البلاد، ووفقا لجميع أحكام قانون «قوات الدعم السريع» لسنة 2017 المعدل لسنة 2019.

ليبدو وكأنه تتحدث عن مدونة أخلاق الجيش السويسرى مثلا.
وعلى ذات المنوال يتجاوب ويتفاعل حميدتي مع الاتحاد الأوروبى- سرًا- في ضبط ملف الهجرة غير الشرعية، بامتداده وسيطرته على نطاقات سير المهاجرين غير الشرعيين في بعض مناطق إفريقيا، ويهدده أحيانا إذا لم يعترف علانية بطبيعة «التعاون» بين الطرفين.

ويرسل حميدتي قواته لليمن للمشاركة ضمن مصالح القوى المتحاربة هناك، ويدير تحالفاته في الإقليم، ويتدبر حربا إعلامية عبر السوشيال ميديا تفوق قدرة خصومه وتسبقها فى إصدار البيانات، وفى معالجات الأحداث وتكييفها.

والمتابع للشأن السوداني يلاحظ مع الوقت أن ميليشيا الدعم السريع بكل فظائعها وجرائمها تنتحل صفة لها مقومات الدولة- في خطابها الرسمي- بأكثر مما هي سمات العصابات المارقة، في حين تبدو الدولة السودانية الشقيقة بحاجة ماسة إلى تطوير أدائها على كل الأصعدة.

وفي الحديث الأخير لـ«حميدتي»، والذي اتهم فيه القوات الجوية المصرية بدك أتباعه فى «جبل موية»، تجرد الرجل من كل هذه العقول التي تشتري البذلات الفاخرة لتاجر الجمال وقائد العصابة الصحراوية، وتنازل عن كل اللغة الرسمية لفصيله، والتي تتحدث بالقانون الدولي وبالمصطلحات السياسية البراقة، ليرتد لطبيعته وسجيته الأولى بلا مكياج.

فقد تكلم الرجل بلغته الأصلية التي هي مزيج من العظات الدينية البسيطة والحكايا المرسلة والاتهامات والتلسينات المندفعة، وبارتباك بادٍ للجميع.

لم يتمترس خلف الكلمات المكتوبة بعناية، والتى كان يلاقى صعوبة فى نطقها وقراءتها باللغة العربية الفصحى، ليبدو كرجل دولة كما أراد داعموه، بل تخلى الرجل عن كل هذه الرطانة وتحدث كـ«حميدتى» الذى يدير ميليشيا تسيطر عليها عائلته وتشغل فيها مناصب قيادية، يتحكم من خلالها بالملف المالي والتفاوضي والتسليحي عبر شقيقه «القوني حمدان دقلو»، وينثر بقية أفراد عائلته فى بنية التنظيم.

تحدث حميدتي كتاجر جمال له تأملات بدائية يعتقد أنها خلاصة الحكمة المقطرة، ممزوجة بتصورات دينية تشبه أحاديث الأرياف في الليالى المقمرة، مدفوعة بسجية بسيطة وخيالات عن الذات وعن أخلاقياتها الرفيعة في مقابل تجبر الخصوم.

وفق المراقبين، بدأ محمد حمدان دقلو مضطربا مرتبكا في هذا الخطاب، مضطرا للاصطدام مع القوى الأكبر والأكثر قابلية للحسم «مصر»، ومعترفا ببداية انكساره.

ووفقًا لما يبدو لي ترابطًا روائيا بين البدايات والخواتيم، فإن تاجر الجمال بداخله يستنهض خوفه القديم من انتقام «الإبل».. وهو يدرك فى أعماقه أن «الجمل» يصبر ولا يترك حقه.

Exit mobile version