ثغرة في جدار “ماجينو”

هذا المقال أهديه للشهيد أحمد محمد صديق الشفيع ورفاقه
(دعواتكم لهم بالقبول).
د. أسامة عيدروس
حينما أثقلت حروب نابوليون أوربا اجتمع الأوربيون في فيينا في العام 1814 بعد هزيمة نابليون للتفاوض حول قضايا ما بعد الحرب. وقاد هذه الاجتماعات وزير خارجية النمسا والدبلوماسي المحنك “كليمنس فون مترنيخ” واستطاع اقناع قادة أوربا أل ينظروا لمالات ما بعد الحرب باعتبار المنتصر والمهزوم وانما يحللوا جذور الأزمة في القارة ويعملوا على معالجتها بصورة تنتهي من الحروب داخل أوربا وتسمح لها بالازدهار. وقد نجح مترنيخ في خلق توازن قوى داخل القارة إلى الدرجة التي قام فيها بإعادة رسم الحدود ونزع أقاليم كاملة من دول أوربية وضمها الى دول أخرى. كانت هذه هي بداية عصر بناء المركزية الأوربية التي تحكم عالمنا إلى اليوم. وقد نجحت ترتيبات مترنيخ في مؤتمر فيننا إلى إيقاف الحرب داخل أوربا لمائة عام وخلق استقرارا حقيقيا سهل لأوربا ارسال جيوشها لتوسيع نطاق مستعمراتها.
على العكس من “مترنيخ” جاء رئيس وزراء فرنسا “جورج كليمنصو” في العام 1918م مثقلا بعار احتلال ألمانيا لأجزاء واسعة من شمال وشرق فرنسا إلى قرب نهاية الحرب. هذا الأمر ألقى بظلاله على مؤتمر “فرساي” للسلام حيث أصر “كليمنصو” على معاقبة ألمانيا فيما عرف باسم “شرط ذنب الحرب”، وفرض غرامات مالية باهظة عليها وحملها تكلفة الحرب وعاقبها بالحرمان من التسلح. هذا الأمر هو الذي أدى إلى صعود القومية النازية وفوز هتلر ونجاحه في حشد الشعب الألماني وبناء قدراته العسكرية والانسحاب من معاهدة فرساي مما أدى لنشوب الحرب العالمية الثانية.
خلال عشرين عام من تاريخ توقيع معاهدة فرساي ظل الفرنسيون يعلمون أن حربهم مع ألمانيا قادمة ولذلك بدأ الجيش الفرنسي في إعداد خطة للدفاع عن بلادهم حتى لا يتكرر احتلالها من الألمان. وقد ساعد على الاقتناع بخطة الدفاع هذه أن القيادة العليا الفرنسية، قد تأثرت لعدد القتلى والجرحى في الحرب العالمية الأولى من عام 1914 إلى 1918، وأصبح البرلمان الفرنسي أكثر قناعة للأخذ بالدفاعات المحصنة التي توفر للجنود الفرنسيين الصمود والثبات.
الاستراتيجية الدفاعية الفرنسية (الاستراتيجية السلبية) اعتمدت على بناء خط من التحصينات القوية المستديمة «خط ماجينو». والذي صمم ليكون قادراً على وقف تقدم القوات الألمانية المهاجمة، ما يسهل قيام القوات الفرنسية المدافعة بتوجيه ضربات مضادة إليها وسحقها. وقد أثر هذا الفكر الاستراتيجي الخاطئ على تنظيم القوات الفرنسية المدافعة عن خط “ماجينو” وتكوينها، وأدى إلى إهمال تطوير قواتها المدرعة والميكانيكية، والقوات الجوية وقوات الإبرار الجوي على الرغم من أن فرنسا ظلت تبني في هذا الخط وتعزز دفاعاته على طول خط المواجهة بين فرنسا وألمانيا لمدة عشرين عاما. وقد كانت المحصلة كارثية على فرنسا إذ قام الألمان باجتياح خط “ماجينو” في أربعة أيام واحتلوا فرنسا بالكامل خلال الحرب العالمية الثانية.
مفهوم التكرار التاريخي (Historic recurrence) يعني أن التاريخ يكرر نفسه. نحاول في الحلقات القادمة الاستفادة من هذا التاريخ في تحليل مسرح العمليات في السودان.

Exit mobile version