عبد الله علي إبراهيم
من الصعب على المرء في حرب السودان القائمة أن يصدق أن تنسيقية القوة الديمقراطية والمدنية “تقدم” واقفة على الحياد بين طرفيها، القوات المسلحة و”الدعم السريع”، فعسير أن يمنع هذا المرء، أقله، الانطباع بأن “تقدم” لا تخلو من ميل لـ “الدعم السريع”، وهي مكرهة في هذا لأن خصم “الدعم السريع” في توليفة القوات المسلحة والحركة الإسلامية (الفلول) مما نشأت “تقدم” وسلفها على بغضهما بغض التحريم، وهو بغض قديم عند كل منعطف ثوري في أكتوبر (تشرين الأول) 1964 وثورة 1985، وبالطبع استقوى هذا البغض خلال معارضة مكونات “تقدم” لـ “دولة الإنقاذ” التي لم تجمع في الحكم بين المتهمين المعتادين، الجيش والإسلاميين، وحسب، بل طاول حكمها فغلظ عود هذه البغضاء واستوت، وهذا مما يأتي بالحدس.
أما موضوعياً فـ “تقدم” لم تتأخر عن نسبة “عدالة الحرب” إلى “الدعم السريع، إذ رأت في حربها رداً شرعياً على عدوان الجيش والفلول عليه في الـ 15 من أبريل (نيسان) 2023، وكثيراً ما غيبت أقلام بارزة من “تقدم” الجيش نفسه عن معادلة الحرب، وخصت “الفلول” بالهجوم على “الدعم السريع” هجوماً جرجرت الجيش إليه وأنفه مرغم، وعينت مطلب الفلول من الحرب وهو طي صفحة ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018 والعودة لسدة الحكم، فربح “الدعم السريع” بدور الضحية من “تقدم”، وربح البيع.
ولن تكون هذه مرة “تقدم” الأولى في الميل إلى “جيش” ناصب القوات المسلحة والإسلاميين العداء، فكانت طلائعهم قد زهدت في الديمقراطية التي جاءت بعد ثورتهم في أبريل عام 1985 إثر تعاظم نفوذ الإسلاميين في حكومة السيد الصادق المهدي، فتطلعوا إلى “الجيش الشعبي لتحرير السودان” للخلاص منها، وكان ذلك الجيش قاطع انتخابات عام 1986 لأنها ستعيد إنتاج حكومات السودان من لدن الاستقلال، بل التحقت جماعات منهم مثل القيادي الحالي بـ “تقدم” ياسر عرمان بالجيش الشعبي وحملت السلاح ضد القوات المسلحة.
ومع أنه شتان ما بين العقيد قرنق والفريق حميدتي من جهة الرؤية السياسة، إلا أن اضطرار “تقدم” إلى الاصطفاف مع “جيش خلاء”، في عبارة السودانيين، كرهاً في القوات المسلحة والإسلاميين، ماثل في الحالتين.
ولن تجد لذاكرة جنوح “تقدم” للجيش الشعبي صدى في أدبياتها منذ تهافت مشروع السودان الجديد الذي أغراهم بالجيش الشعبي، في التطبيق، بدولة جنوب السودان بعد انفصالها عن السودان واستقلالها عام 2011، فأفحمهم من دون تذكر مبدأ السودان الجديد، الحرب الأهلية التي اندلعت بُعيد الاستقلال، جراء صراع جنرالات “الجيش الشعبي” على رأس جماعاتهم الإثنية، وكانت حرباً من الدمامة بمكان حيث بلغت حد جرائم حرب وذروتها التصفية العرقية، ولما فقدوا في “تقدم” ذاكرة مشروع السودان الجديد، الذي لم يكن، تمسكوا برمزه وهو العقيد قرنق كأثر بليغ من مغامرتهم للسودان الجديد في أثر جيش خلاء، بل بلغت العقيدة فيه أن قالوا إنه لو لم يمت باكراً بعد قيام حكومة الوحدة الوطنية في حادثة الطائرة عام 2005 لما وقع الانفصال نفسه، فالانفصال جريرة من أمسك بالزمام بعده.
وبدا الاعتقاد في أن قرنق كان صمام وحدة السودان وبموته تفرق البلد بدداً، كقشة الغريق تعتصم بها “تقدم” لتتفادى التصالح مع حقيقة فشل مغامرتها مع “الجيش الشعبي” في مشروع للسودان الجديد، وهو مشروع حملهم له شاغل معارضة حكومة الخرطوم بأية صورة، بينما لا يملكون أمراً ولا نهياً في إدارته التي هي بيد العسكريين، بل وفي يد قرنق دونهم، ولو توقفت “تقدم” بشفافية لجرد هذه المغامرة الفاشلة لوجدت من كان حذرها من عاقبتها وهو الأوثق معرفة بالجيش الشعبي، فصدرت ممن خرج من الجنوبيين وغيرهم منه بغصة كتب منذرة عن مآل الحركة إن لم تلجم السياسة العسكرية فيها، فصدر للأكاديمي وعضو القيادة العليا في “الجيش الشعبي” لام أكول كتابه “الحركة الشعبية لتحرير السودان: داخل ثورة أفريقية” عام 2001، وهو عبارة عن يوميات عن صراعه لبث الديمقراطية في هيكل الحركة التي التحق بها عام 1988 وانشق عنها عام 1991، كما صدر للكاتب والمؤلف في تراث جبال النوبة الذي انضم إلى الحركة عام 1986 وخرج عليها في 1996 محمد هارون كافي كتابه “نزاع السودان”، وصدر للأكاديمي بيتر أدوك نيابا كتابه “سياسات التحرر في السودان: نظرة من الباطن” عام 1997، وكان انضم إلى الحركة عام 1986 وغادرها نهاية العقد.
وهذه الكتب وسيرة أصحابها في الحركة، وبإيجاز، مصداق لمثل أفريقي يقول “إذا خرجت السمكة من النهر وقالت لكم إن التمساح مات فصدقوها”، فهي كتب وتجارب نعت الحركة لمن ألقى السمع.
وصدر عام 2022 كتاب آخر لبيتر نيابا عنوانه “بدءاً بالقرية”، وهو ترجمته الذاتية في الحركة الشعبية الأم وفي الحركة التي انشقت عنها، وتوج بهذا الكتاب الأخير أربع كتب أخرى عرض فيها لنضال صفوة الجنوب من أجل “سودان جديد” ولسياسات الدولة السودانية الجنوبية التي انتهوا إليها عام 2011 بعد قرارهم الانفصال عن شمال السودان، وهو سياسي ووزير وكاتب وأكاديمي تخرج جيولوجياً في “جامعة الخرطوم” ودرس في “جامعة جوبا” وخرج على قرنق مع نائب رئيس جمهورية جنوب السودان الحالي ريك مشار، ولام كول في تنظيم باسم الحركة الشعبية (جناح الناصر) عام 1992 ليتركها بدوره عام 1994 ثم يعود لـ “الحركة الشعبية” بقيادة العقيد جون قرنق عام 1995 ليتقلد حقيبة التعليم العالي بعد اتفاق السلام الشامل بين الحركة الشعبية ودولة الإنقاذ عام 2005.
ووراء تلك الأسفار الشقية لنيابا في شعاب “الحركة الشعبية” روح مؤرقة بالديمقراطية في إدارة السياسة بالناس وللناس، فساقه أرقه إلى وجوب قيام الحركة على السياسة وأن تدار بديمقراطية إلى السجن، في الحركة الأم والحركة المنشقة.
أخذ نيابا على الحركة الشعبية حيلولة طبيعتها العسكرية من دون تنمية بنية ديمقراطية تحكم أداءها، فاعتمدت بالنتيجة على الأوامر التي أخرجتها من زعمها بأنه حركة سياسية مسلحة، فالمنظمة السياسية في قوله “مهما قلنا عنها بحاجة إلى أن يتناقش أعضاؤها المسألة حتى ينعقد اتفاق حولها ديمقراطياً”، فالخلافات العائدة للسياسة فيها مما صار يحل بالقوة العسكرية لا بسبيل السياسة، وتوحشت الحركة بارتكاب إعدامات خارج نطاق القانون واعتقالات تحفظية من دون محاكمات في سجون الحركة، واستعان نيابا بتخصصه في علم الحفريات ليصور الأزمة في الحركة التي ساقت إلى الانشقاق فيها فقال إن الحركة نمت كياناً عظيم الجثة ولكن ظل رأسها على صغره فلم يعد قادراً على إدارة جسدها، وأضاف أنهم كانوا يقولون في علم الحفريات إن الديناصور تعاظم حجماً حتى لم يعد خشمه الصغير قادراً على إدخال الطعام المناسب لحاجته، فانقطع نسله من على ظهر البسيطة.
ووراء تلك الأسفار الشقية لنيابا في شعاب “الحركة الشعبية” روح مؤرقة بالديمقراطية في إدارة السياسة بالناس وللناس، فساقه أرقه إلى وجوب قيام الحركة على السياسة وأن تدار بديمقراطية إلى السجن، في الحركة الأم والحركة المنشقة.
أخذ نيابا على الحركة الشعبية حيلولة طبيعتها العسكرية من دون تنمية بنية ديمقراطية تحكم أداءها، فاعتمدت بالنتيجة على الأوامر التي أخرجتها من زعمها بأنه حركة سياسية مسلحة، فالمنظمة السياسية في قوله “مهما قلنا عنها بحاجة إلى أن يتناقش أعضاؤها المسألة حتى ينعقد اتفاق حولها ديمقراطياً”، فالخلافات العائدة للسياسة فيها مما صار يحل بالقوة العسكرية لا بسبيل السياسة، وتوحشت الحركة بارتكاب إعدامات خارج نطاق القانون واعتقالات تحفظية من دون محاكمات في سجون الحركة، واستعان نيابا بتخصصه في علم الحفريات ليصور الأزمة في الحركة التي ساقت إلى الانشقاق فيها فقال إن الحركة نمت كياناً عظيم الجثة ولكن ظل رأسها على صغره فلم يعد قادراً على إدارة جسدها، وأضاف أنهم كانوا يقولون في علم الحفريات إن الديناصور تعاظم حجماً حتى لم يعد خشمه الصغير قادراً على إدخال الطعام المناسب لحاجته، فانقطع نسله من على ظهر البسيطة.
وهكذا حال الحركة تفاقمت حجماً فضاقت بالديمقراطية التي وحدها من تغذيها بالحيوية والفاعلية، وحمل نيابا على قيادة قرنق المطلقة للحركة بما سبق لأكول وصفها بـ “العالم الكافكي” نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا من روايته “المحاكمة”، وهو العالم الذي يغرب الناس عن واقعهم بهدف إخضاعهم لإرادة غالبة، فلم يعلم لام أكول عن ترقية قرنق له لعضوية المجلس القيادي العسكري رسمياً بل من أناس حوله، وهي ترقية مع وقف التنفيذ لأن المجلس لم يجتمع طوال عضويته فيه على رغم كثرة مطالبه بذلك. وروى نيابا فيضاً من الروايات عن ذلك العالم، فكان نيابا يذيع مفهوماً سماه “بيت القوميات” الجنوبي، وهو عبارة عن مجلس نيابي تتمثل فيه شعوب الجنوب الـ 76 بالعدد نفسه، وبغض النظر عن غزارة عددها من قلته.
وقام مفهومه على قناعته أن النبل من حرب التحرير في تواضع الجماعات غزيرة العدد وامتثالها لحقوق غيرها من أقوام الوطن، ولجم عزتها بعظم عددها، وفوجئ نيابا بقرنق يأمر بمصادرة كتابه الذي حمل ذلك المفهوم بعنوان “بيت القوميات: فضاء لحفظ الوحدة في التنوع لشعوب جنوب السودان”، وزاد بأنه أوقف توزيع الـ “تي شيرتات” التي كانت ستصحب تدشين الكتاب في مناسبة ما، وأمر قرنق بحمل الكتاب والـ “تي شيرتات” إلى مكان على بعد نصف ميل من الموضع لحرقها، وعلم نيابا أن قرنق قام بذلك نتيجة وشاية من أحدهم قال له إن نيابا أراد بمفهومه “إيقاظ الناس النائمة وقد ربحت الحرب”.
وحمل نيابا نفس أرقه بالديمقراطية إلى “الحركة الشعبية جناح الناصر”، وكان استحسن مذكرة صدرت عن لام أكول عام 1990 عن إصلاح الحركة الشعبية عنوانها “لماذا كان على قرنق أن يغادر الحركة الآن؟”، ووجد فيها ما تطلع هو نفسه للحركة التي ذاق منها الأمرين كما سنرى، وعاد من ألمانيا عام 1992 لينضم إلى جناح الناصر، بينما إجراءات لجوئه إليها كانت على وشك أن تخلص.
وكان نيابا فقد رجله خلال عملية عسكرية عام 1987 ضد جيش الحكومة في بلدة الجكو، وهي معركة أدارها قرنق وقال نيابا إنه لم يحسن القيادة، وزاره قرنق حيث كان يعالج في مستوصف بأديس أبابا، ورفعاً لمعنوياته أخبره أنه تقرر سفره إلى كوبا لعلاج أدق وأنجع، وأهداه نسخة من كتاب “حرب الغوريلا” لماو تسي تونغ، وعلق نيابا قائلاً إنها لمفارقة لأن خطة ماو في كتابه ناقضة لخطط قرنق في حربه التي أصيبت فيها رجله، فلو واجه ماو تسي تونغ وضعاً مثل الجكو، في قوله، لامتنع من الهجوم على جماعة مرتكزة وحاصرها بدلاً عن ذلك حتى تستسلم صاغرة.
وعاد نيابا من كوبا برجل واحدة وطلب لقاء قرنق ليعرض عليه استعداده لأداء أي مهمة جديدة، فقال “ولدهشتي وغثياني وغضبي قال لي قرنق بغير لبس إنه لن يكلفني بمهمة ما، وأنني ينبغي أن ألزم معسكر اللاجئين واعتني بأسرتي”، وكأن فقدانه لرجله أسقط عنه التكليف من الحركة الشعبية، فتمالك غضبه وشكر قرنق للوقت الذي خصصه لمقابلته وغادر بلا ضجة.
ولم يلبث نيابا في المعسكر طويلاً حتى اعتقلته المخابرات العسكرية التابعة للحركة وأُخذ إلى سجنها في بلدة بلبام، ولم يطلعه الجهاز بالتهمة التي أوصلته إلى السجن، وعطف ضابط في السجن عليه كمناضل معوق وجعله يقيم في جناح خاص من السجن الآخر الذي قال إنه عبارة عن حفرة واسعة في الأرض، وتعرف في الجناح الخاص على ضباط في الحركة يأتون بهم معتقلين ويتراوح عددهم فيبلغ الـ 30 في بعض الأحوال، ومن أعجب ما روى عن السجن دخول الملازم أول في الحركة ونائب رئيس مجلس السيادة الحالي في السودان مالك عقار عليهم معتقلاً ذات يوم، فجاؤوا به وربطوه إلى شجرة وعذبوه بغير رحمة. ولو لم يكن الرجل “على بسطة من الجسم”، ولا يزال، في قول نيابا، لما احتمل ذلك الأذى ولانتهى جثة تحت ذلك التعذيب، وقال إنه ما جاء الصباح حتى ذهب وحل وثاق عقار وأخذه ليرتاح على سريره، وأعطاه حبوب “تتراسيكلين” ليقاوم جسده التسمم من الجراح، وبعد ثمانية أشهر و14 يوماً أطلقت المخابرات نيابا.
وتوقف عند واقعة كشفت عمق لؤم رفاقه، فحين خلص من إجراءات إطلاقه سلمه ضابط السجن برقية عمرها ثمانية شهور من أسرته تبلغه بأنه رزق طفلاً ويسألون عن اسم له، فقال “هززت رأسي من الصدمة، فمقدرتهم في الحول دونك ومثل هذا الخبر من أمهات الصغائر وقساوة القلب”.
ولم يسلم نيابا من السجن في شعاب جناح الناصر، فسرعان ما اكتشف أن ليس كل ما يلمع في شعاب الحركة ديمقراطية، فضرب الانقسام جناح الناصر وتضرجت المواجهات بين جماعة مشار وجماعة أكول بدم ضحايا، قال إنه زاد كثيراً عما فقدته الحركة بمواجهة جيش الحكومة المركزية، فسجنه أكول سجناً مؤبداً لم يدم لأكثر من ستة شهور، وقال إنه من سجنه شاهد لام أكول نفسه يتحول إلى نسخة كربون من قرنق ونظامه الذي يدور حول إرادة رجل واحد، ورأى في الدعوة إلى دمقرطة الحركة من مشار وأكول مجرد واجهة لاختلاف جنرالاتها لأن بنية الحركة لم تتسع للخلاف وإدارته، وكتب “سياسات التحرير في جنوب السودان” عام 1997، ليسمي قيام جناح الناصر بـ “وهم التحول الديمقراطي”.
وكان سلف “تقدم” مثل ضيف على الحركة الشعبية وجيشها لا طرفاً عضوياً فيها، فلم يأت أي منهم بقبيله إلى الجيش الذي هو مكمن الشوكة في الحركة الشعبية، وسأل مرة أحدهم معرضاً بالسياسي والوزير والكاتب المرموق منصور خالد الذي انضم إلى الحركة عام 1986، بقلمه “السنين”، عن الجند الذين جاء بهم إلى ميدان المعركة، فلم يكن هذا السلف لـ “تقدم” تلك السمكة الأفريقية التي تعرف باطن النهر وإن كان التمساح قد نفق، ولم يفق ذلك السلف على نفوق عقيدة السودان الجديد إلا بعد انعقاد الاستفتاء الذي صوت فيه الجنوبيون بقيادة الحركة الشعبية للانفصال بما هو قريب من الإجماع السكوتي، وتذرعوا في “تقدم” بوفاة قرنق قبل الاستفتاء ليقولوا إنه لو كان حياً لأخذ الناس وحده في طريق وحدة السودان.
وبالوسع القول إنه ربما كان نجح في ما يزعمه سلف “تقدم” له من تثبيت الوحدة، ولكن صح القول إنه مع ذلك لم يبن الحركة التي تحرص على ما حرص عليه وهو وحدة البلاد، سواء كان حاضراً أو غائباً.
وليس من غرض هذه المقالة المطابقة بين حركة قرنق و”الدعم السريع” فالبون بينهما مما لا تخطئه العين، ولكن “الكُنته” في قول شباب السودان، أي بيت القصيد، هو عادة “تقدم” في المخاطرة في مشاريع لا تملك زمامها لتحصل الندامة.