مهند كابوتا
يشهد القرن الإفريقي مرحلة شديدة الحساسية تتداخل فيها اعتبارات الجغرافيا السياسية مع تحولات داخلية معقدة، في ظل تصاعد التوتر بين إثيوبيا وإريتريا، ففي الوقت الذي تسعى فيه أديس أبابا لتجاوزعزلتها البحرية وتأمين منفذ استراتيجي على البحر الأحمركأولوية قومية، تنظرأسمرة إلى هذا التوجه باعتباره تهديدًا مباشرًا لسيادتها الوطنية وخطًا أحمر لا يمكن تجاوزه.
هذا التصعيد لا يُقرأ بمعزل عن المشهد الإقليمي الأوسع، حيث تلعب المعارضة الإريترية دورًا غير محسوم بعد، وقد تتحول إلى أحد أدوات التأثير أو التصعيد في النزاع، وفي ظل الانقسامات الداخلية في إثيوبيا، والتوجس الأمني في إريتريا، يبدو أن المنطقة تتجه نحو مرحلة من إعادة رسم خرائط النفوذ، تتراوح بين سيناريوهات الاحتواء المرن والتصعيد المحسوب، مع احتمالات مفتوحة على التدخلات الدولية وتغير الاصطفافات الإقليمية.
إثيوبيا وإريتريا: احتمالات المواجهة
يشهد المشهد السياسي والاجتماعي في إثيوبيا وإريتريا حالة من التوتر المتصاعد، إلا أن احتمالية اندلاع حرب شاملة لا تزال غير مؤكدة في ظل ظروف معقدة تحكم كل طرف.
في إثيوبيا، يتسم الوضع الداخلي بالهشاشة، خاصة بعد النزاع الدموي في إقليم تيغراي، والتصاعد المستمر للانقسامات الإثنية والسياسية، رئيس الوزراء آبي أحمد يواجه ضغوطًا متزايدة قد تدفعه إلى تبني خطاب قومي يرتكزعلى العوامل الخارجية، بهدف تحييد الأزمات الداخلية وتسخيرها لصالح تعزيز موقعه السياسي.
أما في إرتريا فلا يزال النظام الإريتري بقيادة أسياس أفورقي محافظًا على سيطرته الأمنية المشددة، مع تصاعد القلق إزاء الدعم الدولي المتنامي للمعارضة، وتعكس التعبئة العسكرية الأخيرة في أسمرة استعداد النظام لأي تحرك إثيوبي مفاجئ قد يعيد إشعال التوترات رغم غياب مؤشرات على اندلاع حرب شاملة في الوقت الراهن، إلا أن احتمالات وقوع اشتباكات محدودة تبقى واردة، خاصة في حال حدوث سوء تقدير أو استخدام استفزازات ذريعة للتصعيد، مما يستدعي حرصًا دبلوماسيًا عاليًا ويقظة من جميع الأطراف لتجنب تفاقم الأوضاع.
واقع المعارضة الإريترية وإمكانياتها
نظر إلى الوضع الراهن للمعارضة الإريترية، يمكن القول إنها تمر بمرحلة دقيقة تتسم بالتحديات البنيوية والسياسية، لكنها ليست بلا خيارات، فالمعارضة تمتلك تاريخًا نضاليًا طويلاً، إلا أن تأثيرها داخل البلاد لا يزال محدودًا بسبب غياب شبكات تنظيمية فعالة في الداخل، وضعف التواصل المباشر مع المجتمع الإريتري.
كما أن اعتماد بعض فصائلها على الدعم الخارجي، خصوصًا من إثيوبيا، يثير تساؤلات حول استقلالية القرار السياسي، ويؤثر على مصداقيتها لدى شريحة من المواطنين، في المقابل، فإن محاولات توحيد الصفوف ضمن مظلة سياسية واحدة يشيرإلى وعي متزايد بالحاجة إلى استراتيجية جامعة تتجاوز الحسابات الضيقة.
نوايا إثيوبيا تجاه المعارضة الإريترية: دعم تكتيكي أم حسابات استراتيجية؟
تُثير استضافة أديس أبابا لفصائل المعارضة الإريترية اهتمامًا لافتًا، وتُفهم في ظاهرها كمحاولة لدعم المعارضة وتمكينها سياسيًا في مواجهة نظام أفورقي، غير أن قراءة أعمق لتاريخ العلاقة بين الجانبين تُظهرأن إثيوبيا كثيرًا ما تعاملت مع المعارضة الإريترية كأداة ضمن توازنات إقليمية أكثر من كونها شريكًا في مشروع سياسي بعيد المدى، وبينما لا يمكن إنكارأهمية أي دعم إقليمي لقوى التغيير، إلا أن الواقع يُشير إلى أن هذا الدعم غالبًا ما يرتبط بظرف سياسي معين، ويخضع لحسابات المصالح، ما يجعل المعارضة في كثير من الأحيان تتحرك ضمن هامش محدد لا يعكس بالضرورة أولوياتها الوطنية.
حصان طروادة في النزاع الإثيوبي-الإريتري
في بعض التحليلات الجيوسياسية، يُطرح احتمال أن تلجأ إثيوبيا إلى توظيف المعارضة الإريترية كوسيلة غير مباشرة لإعادة تشكيل المشهد السياسي في أسمرة، دون الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة، هذا السيناريو يُفهم ضمن إطار “العمل عبر الوكلاء”، حيث توظّف المعارضة لتقويض النظام من الداخل، ومن ثم فتح الطريق لتفاهمات سياسية أو ترتيبات أمنية تتيح لأديس أبابا نفوذًا فعليًا على السواحل الإريترية—خاصة في موانئ استراتيجية مثل عصب أو مصوع.
في هذا الإطار، قد تضمن إثيوبيا مكاسب جيوسياسية حاسمة تحت غطاء الدعم للتحول الديمقراطي، في مرحلة ما بعد النظام، مع احتمالية منحها امتيازات تضمن لها مصالحها الاقتصادية والأمنية، يبقى هذا السيناريو محفوفًا بالمخاطر السياسية والأخلاقية، وقد ينقلب ضد الطرفين إذا لم يتم التعامل ضمن إطار شرعي وقانوني يحظى بقبول شعبي وإقليمي.
تحديات المواجهة العسكرية بين إثيوبيا وإريتريا
تمتلك إثيوبيا قوة عسكرية عددية ولوجستية معتبرة تؤهلها نظريًا لخوض مواجهة عسكرية مع إريتريا، إلا أن مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية تحد من فرص نجاح أي حرب مفتوحة على الصعيد الداخلي، تواجه إثيوبيا تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة، إضافة إلى أزمات سياسية مستمرة تزيد من هشاشة وضعها الداخلي، مما يضعف قدرتها على تعبئة موارد مستدامة للحرب.
إقليمياً، يُعتبر أي تحرك عسكري مباشر ضد إريتريا انتهاكًا لسيادة دولة جارة، الأمر الذي من المرجح أن يثير ردود فعل حازمة من دول الإقليم مثل مصر، جيبوتي، والصومال، التي تسعى للحفاظ على الاستقرار في المنطقة، على الصعيد الدولي، تشكل القوى الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، عامل ردع مهم، حيث تميل واشنطن إلى رفض تصعيد النزاعات في القرن الإفريقي حرصًا على أمن الملاحة في البحر الأحمر واستقرار المنطقة بشكل عام.
بالتالي، على الرغم من القدرات العسكرية الإثيوبية، تبقى المعادلة معقدة، والرهان الأكبر قائم على احتمالات التصعيد المحدود أو غير المباشر بدلاً من مواجهة عسكرية شاملة
النفوذ الأمريكي في القرن الإفريقي
تتبنّى الولايات المتحدة سياسة مدروسة تجاه التصعيد الإثيوبي–الإريتري، قائمة على الحذر الاستراتيجي وضبط التوازنات بدل الانحياز أو التصعيد، فواشنطن، المعنية بأمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب، تراقب الوضع دون الانجرار إلى مواقف متسرعة، مدفوعة بأولويات تشمل مكافحة الإرهاب، حماية مصالحها البحرية، ومنع توسّع النفوذ الصيني أو الروسي في المنطقة.
وعلى الرغم من دعمها التقليدي لاستقرار إثيوبيا، فإنها لن تبارك مغامرة عسكرية قد تفتح جبهة غير محسوبة في منطقة مضطربة أصلًا، بل ستستخدم أدوات ضغط سياسية واقتصادية لتقييد أي تحرك يهدد التوازن الإقليمي.
تقدير ختامي للمشهد الإقليمي
تعيش المنطقة لحظة بالغة الحساسية، حيث تدفع الضغوط الجيوسياسية إثيوبيا، العالقة في الداخل بسبب أزماتها السياسية والاقتصادية، إلى السعي الحثيث نحو منفذ بحري باعتباره مسألة أمن قومي، في المقابل، ترى إريتريا في هذه التحركات تهديدًا وجوديًا يصعب تجاهله.
في ظل تعقيدات المشهد الإقليمي، تبدو المعارضة الإريترية كفاعل سياسي تواجه تحديات تفوق إمكانياتها الذاتية، ما قد يحد من قدرتها على التأثير المباشر، ما يبدو وجودها في هذا السياق أقرب إلى ورقة يتم توظيفها ضمن صراع أكبر من إمكانياتها الذاتية، ما يجعلها عرضة للاستغلال في ترتيبات إقليمية قد لا تعكس طموحاتها الحقيقية.
في ظل هذا المشهد، يُرجّح أن تستمر حالة الشد والجذب بين النظامين دون مواجهة مباشرة في المدى القريب، مع تصاعد أدوات الضغط غير المباشر، من تحركات استخباراتية إلى مناورات سياسية، لكن احتمال التصعيد العسكري يبقى قائمًا، لا سيما إذا تراجعت آليات الردع الإقليمي والدولي، أو إذا رأت بعض الأطراف أن خيار المغامرة قد يخدم أجنداتها الآنية.
مهند كابوتا

