خالد محمد أحمد
من يتابع الخطاب الإعلامي المصري مؤخرًا يلاحظ إصرارًا لافتًا على ترديد مصطلح (العودة الطوعيَّة) في تغطية أخبار عودة النازحين السودانيين من مصر إلى بلادهم. وللوهلة الأولى، قد يبدو الأمر مجرَّد استعمالٍ لمصطلح أُممِي شائع، لكنه في جوهره اختيارٌ لغوي محسوب يخدم أهدافًا نفسية وسياسية تتجاوز حدود اللغة.
يُدرك الإعلام المصري أن صورة مصر، التي تستضيف عددًا كبيرًا من النازحين السودانيين، على المحكّ في ظلّ استمرار وجودهم على أراضيها. ولهذا، فإن التشديد على إلحاق كلمة (طوعيَّة) بكلمة (عودة) يؤدي وظائف متعدّدة؛ فهو أولاً يطمئن الداخل المصري برسالةٍ واضحة مفادها أن مصر لم تُجبر أيَّ سوداني يحترم القوانين على الرحيل، ثانيًا يؤكّد للسودانيين المغادرين أن قرار العودة كان خيارهم الحرّ، ثالثًا يرسِّخ في ذاكرتهم صورةً إيجابية عن مصر التي رحَّبت بهم ولم تُجبرهم على المغادرة، ورابعًا يوجِّه رسالةً إلى المجتمع الدولي بأن العودة لم تكن قسريَّة، وهو ما يحفظ صورة مصر في تقارير المنظمات الحقوقية والإنسانية.
إذن، فإن تكثيف استعمال المصطلح في هذا السياق ليس مجرَّد وصفٍ محايد للحالة، بل هو أداةٌ لصياغة سرديَّةٍ رسمية تترك أثرًا نفسيًا على المتلقِّي، سواء أكان مصريًا أم سودانيًا أم أجنبيًا، وتعمل على إدارة العلاقات مع السودان، والرأي العام الداخلي، والسمعة الدولية. وبهذا المعنى تتحوَّل اللغة إلى أداةٍ في إدارة السياسة، ويصبح التركيز على كلمة (طوعيَّة) جزءًا من صياغة المفاهيم أكثر منه مجرَّد توصيفٍ للواقع.
من الناحية اللغوية، هناك إشكالٌ واضح في المصطلح في الأساس؛ فكلمة (عودة) في العربية تكفي بذاتها للتعبير عن الرجوع الطوعي، بينما تشير كلمة (إعادة) عادةً إلى معنى الإكراه أو الإجبار. وبما أن الكلمة الإنجليزية (return) لا تميِّز بين المفهومين، استُحدِث في أدبيات الأمم المتحدة مصطلحا (Voluntary Return) و(Forcible/Forced Return)، وعندما تُرجِما إلى العربية، أضيفت كلمتا (طوعيَّة) و(قسريَّة) بلا داعٍ، فتحوَّل التعبير إلى صيغةٍ معيبة من حيث المنطق اللغوي.
هذا النمط متكرِّرٌ في ترجمات الأمم المتحدة، التي كثيرًا ما أنتجت مصطلحاتٍ وجدت طريقها إلى التداول مع أنها مشوَّهة وتجافي المنطق، ثم صارت عصيَّة على التصحيح، ومن ذلك مصطلح الاختفاء القسري (Enforced Disappearance)، الذي يُراد به الاعتقال التعسفي المخالف للقوانين. وبما أن الفعل الإنجليزي (disappear) يعجز عن تحديد إنْ كان الشخص قد اختفى من تلقاء نفسه أم أُجبِر على الاختفاء، فقد أُضيفت كلمة (Enforced) لتجلية المعنى. أما العربية، فتميِّز بين الحالتين بدقَّة، إذْ يختلف المعنى بين (اختفى) و(أخفى). والفعل (أخفى) هنا أليق بالدلالة، لأنه يُحيل إلى فاعلٍ خارجي يتعمَّد إخفاء شخصٍ ما عن ذويه والعدالة. لذلك، كان الأجدر أن يكون المصطلح (الإخفاء القسري) بدلاً من (الاختفاء القسري)، مع ملاحظة أنه لا حاجة أصلاً لكلمة (قسري) مع كلمة (الإخفاء)؛ ولكن سبق السيف العذل.
ومثال آخر هو مصطلح أسلحة الدمار الشامل (Weapons of Mass Destruction)؛ فكلمة (دمار) اسم مصدرٍ جامد تفيد النتيجة، بينما (تدمير) من الفعل المتعدي (دمَّر) وتفيد معنى الإحداث والتجريم، أي العملية. ويمكن تقريب الفكرة بالمقارنة بين كلمتي نقاء (purity) وتنقية (purification)، فالأولى تعني النقاء بوصفه حالة، بينما الثانية تفيد التنقية والإحداث.
عودٌ على بدء، فإن تكثيف استعمال عبارة (العودة الطوعيَّة) في الإعلام المصري مثالٌ واضح على توظيف اللغة في خدمة السياسة؛ فالمصطلح في أصله مترجمٌ ترجمة رديئة، لكنه حين يوضع في سياقٍ سياسي حسَّاس، مثل قضية عودة اللاجئين السودانيين من مصر، يتحوَّل إلى وسيلةٍ لترسيخ رواية سياسية في المخيال الجمعي، مُؤدَّاها أن مصر رحَّبت بجيرانها وأحسَنت وفادتهم باستثناء بعض الأصوات النشاز. وهكذا يصبح الإكثار في استعمال المصطلح اختيارًا إعلاميًا وسياسيًا واعيًا يتجاوز حدود التكرار اللفظي إلى تشكيل الذاكرة الجماعية، ويبرهن أن السياسة تُصاغ بالكلمات بقدر ما تُصنع بالأفعال.

