بوح النيلين: ليلة أمسينا سُكارى بكتارا

محمد يوسف العركي
كانت الدعوة إليَّ كنداء من بعيد، تحملها رياح الشوق عبر أزقة الذاكرة، تدعوني إلى أمسية شعرية في مؤسسة الحي الثقافي “كتارا”. ما إن وقعت عيناي على قائمة الضيوف، حتى رفعتها إلى ذروة برنامج مساء الخميس، فـ”كتارا” عوّدتنا أن تهدينا اللؤلؤ والمرجان، أما الليلة فكانت وعدًا بلقاء، ومصافحة بين النيلين وقلبي. كيف لا؟! وانا الذي تفتحت عيناي على النيل الذي يجوار بيت جدي فكان النيل الأبيض رفيقي دوما في كل مراحل حياتي.
وصلت باكرًا، وفي القاعة التي أخذت تتسع وتضيق في آن، همس إليّ جاري مبتسمًا:
“أتظن أن المكان سيمتلئ؟”
أجبته بثقة يعرفها عشاق الكلمة: “بل سيفيض”. وكان كما قلت، فاضت القلوب قبل المقاعد، واضطر المنظمون إلى جلب كراسٍ جديدة كأنهم يفرشون الطريق لاستقبال العابرين إلى جنة الشعر.
“عبدالله محمد الحسن… أستاذي وكفى، ونجمة السماء التي لا تخطئها الأبصار. لم يكن نجمه ساطعًا لأنه على المنصة فحسب، بل لأنه مدرسة في فن التقديم، يعرف كيف يُدخل المستمعين في عالم النص كما يدخل العطر في الذاكرة. منه شربنا الكأس المعنوي الأول… سُكرًا ولا كأسًا تُرى، كما قال محمد يوسف موسى حين سمع صوت ليلى المغربي عبر الأثير.
ثم جاء ملتقى النيلين، من توتي، على لسان د. الصديق عمر الصديق، الذي أخذنا في رحلة من شواطئ الحاضر إلى أرخبيلات التاريخ. تنقّل بين عصور الشعر العربي في السودان، وكأنه يفتح نوافذ على قرون بعيدة، يطل منها التجاني يوسف بشير، ومحمد سعيد العباسي والمحجوب والمهدي المجذوب والدكتور عبدالله الطيب قدس الله سره وبقية الدر والياقوت من سحرة البيان كنت أتمنى لو سمعت من شيئًا من قصيدة المعهد العلمي للتجاني ، لكن عزائي أن العباسي أطل طويلًا، فهو عندي يمثل الضلع الثاني لمثلث الشعراء عندي فهو عندي ما بين المتنبي وشوقي.
ثم انطلق أبناء وبنات بلادي في سباق الندى، يتبارون في إسالة الدمع كما يسيل النيل في موسم فيضانه، مرة لشوق اللقاء، وأخرى لوجع الفراق، والمحبوب في كل الأحوال كان النيل، رمزه ومعناه، ماءه وظلاله. وبين كل قصيدة وأخرى، كان عبدالله محمد الحسن يطل علينا بـين بخٍ ويا مرحى به.
وجاء المسك الأخير، الدكتور حسن النعمة، جهبذ اللغة وسفير الشوق والدبلوماسية، الذي رسم السودان بكلماته حتى كدنا نراه، خضرةً وماءً ووجوهًا باسمة. لدرجة انه لم ينسَ أن يشير إلى سرّ من أسرار الجمال السوداني… الدلكة.
ليلة الأمس لم تكن أمسية عادية، كانت احتفالًا بالحرف، وعرسًا للروح، ورفعًا لسقف الفعاليات التي تتحدث عن السودان في “كتارا”. كل الشكر لها، ولأولئك الذين أبدعوا في التنظيم، وتحية خاصة ابعثها للأستاذ صالح غريب، رجل الثقافة والتراث، ورفيقه الرائع أبو يوسف لحضورهما الانيق، وكل الحضور من مختلف الجاليات.
وأختم كما ردّد عبدالله محمد الحسن أمس مطلع قصيدة سيف الدسوقي:
عُد بي إلى النيل لا تسأل عن السبب.



