المستقبل الكوري الأفريقي.. نمو مشترك واستدامة وتضامن
د. محمد حسب الرسول
إنّ الشراكة التي تسعى كوريا الجنوبية لإقامتها مع أفريقيا ليست خياراً، بل ضرورة. على هذه المقولة التي أطلقها نائب مدير الأمن القومي في كوريا كيم تاي هيو تتأسس منطلقات سيؤول في وثبتها الجديدة تجاه القارة الأفريقية، فتحول هذه الدولة الآسيوية الصاعدة إلى دولة محورية على المستوى العالمي فرض عليها نسج شراكات استراتيجية تعرج بها إلى ذلك المقام.
وفي ظل تنافس الدول العظمى والكبرى، والدول المحورية على القارة السمراء، وسعيها لتأسيس شراكات منتجة على الصُعد الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية، بادرت كوريا الجنوبية إلى ترسيخ وتطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية التي اتسمت بالهدوء والتعاون في المجالات كافة، فعقدت بمشاركة 48 دولة أول قمة كورية-أفريقية في سيؤول في الفترة من 4 إلى 5 يونيو 2024م، تحت شعار “المستقبل الذي نريد صُنعه معاً: النمو المشترك والاستدامة والتضامن”.
لم تكن هذه القمة هي أولى القمم التي تربط أفريقيا بدول أو منظومات إقليمية، فقد سبقت الدول العربية غيرها من الدول في عقد أولى القمم مع أفريقيا في العام 1977، حين أدرك العرب آنذاك الأهمية الاستراتيجية لهذه القارة في صناعة مستقبل العرب، وفي دورها في صناعة مستقبل العالم بحكم ثقلها الجيواستراتيجي ومواردها وثرواتها الطبيعية وإمكاناتها السياسية.
لقد فتحت القمة العربية الأفريقية الأعين على أفريقيا، ونبّهت إلى أهمية الشراكة معها، فأطلقت اليابان عام 1993 مؤتمر طوكيو الدولي لتنمية أفريقيا (تيكاد)، ثم دخلت الصين على أفريقيا بمساعدة السودان عام 2000. وفي العام نفسه، عُقدت القمة الأوروبية-الأفريقية.
وتوالت بعد ذلك قمم كثيرة من بينها: التركية-الأفريقية، والهندية-الأفريقية عام 2008، الإيرانية-الأفريقية عام 2010، الأميركية-الأفريقية عام 2014، الروسية-الأفريقية عام 2019، والقمة الإيرانية-الأفريقية عام 2024.
تحظى أفريقيا بأهمية خاصة في منظور كوريا، إذ ترى في أفريقيا فضاءً جيواستراتيجياً يوفر لها سوقاً لمنتجاتها بحجم مليار ونصف نسمة تقريباً، ومستودعاً للمواد الخام التي تحتاجها كوريا في صناعتها واستثمارتها، وبخاصة المعادن، إذ تختزن أرض أفريقيا 85% من المنغنيز الموجود في العالم، و80% من البلاتين والكروم، و47% من الكوبالت، إضافة إلى كميات هائلة من الحديد والفوسفات والليثيوم والنيكل.
ترتبط كوريا الجنوبية بتاريخ قديم مع الدول الأفريقية يعود إلى نحو 75 عاماً، تأسس لأول عهده إبان الحرب الكورية في منتصف القرن الماضي التي ناصرت فيها دولاً أفريقية سيؤول، مثل إثيوبيا ومصر وجنوب أفريقيا وليبريا، ووفرت لها الدعم العسكري، وعملت على تعزيز علاقاتها الأفريقية بعد انضمامها إلى الأمم المتحدة عام 1991. وبرغم ذلك التاريخ الطويل، فإنَّ حجم التبادل التجاري بينها وبين الدول الأفريقية لا يرقى إلى حجم قدراتها الاقتصادية، ولا يتناسب مع رسوخ علاقاتها الدبلوماسية.
كوريا صاحبة المكانة الاقتصادية الكبيرة التي وضعتها في المرتبة الثانية عشرة عالمياً والرابعة آسيوياً بقدرة اقتصادية تقدر بنحو 1.7 تريليون دولار غائبة عن المشهد الاقتصادي في الفضاء الأفريقي، إذ ظل حجم التبادل التجاري بينها دون سقف المليار دولار.
اتخذت كوريا من المبادرة الكورية لتنمية أفريقيا التي أطلقتها عام 2006، والتي هدفت إلى تطوير علاقاتها السياسية والاقتصادية بأفريقيا، مدخلاً للانتقال بعلاقاتها الأفريقية إلى مرحلة المأسسة. وقد عززتها بتأسيس المنتدى الكوري الأفريقي الذي تشرف عليه وزارة الخارجية الكورية في العام ذاته.
كما أضافت إليهما مبادرة حزام الأرز الذي أطلقته وزارة الزراعة في تموز/يوليو 2023، في إطار مشروع يهدف إلى تحقيق الأمن الغذائي للقارة، والذي استفادت منه 8 دول، هي: السنغال، وغامبيا، وغينيا، وغانا، والكاميرون، وأوغندا، وكينيا، وغينيا بيساو. وقد صُممت المبادرة لإنتاج 10 ألف طن من بذور الأرز بحلول عام 2027، لتمكن من توفير غذاء لنحو 30 مليون شخص في هذه الدول.
وتمثل بعض المبادرات الكورية في أفريقيا نمطاً من أنماط القوة الناعمة لكوريا التي تمكنها من حصد ثمارها في الميادين السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، وبخاصة مبادرة حزام الأرز، والمبادرات الثقافية التي أطلقتها سيؤول قبل 3 عقود، ونسجت عبرها علاقات وثيقة مع الفاعلين في مجالات الفنون الموسيقية والتشكيلية وسائر ضروب الفن، الأمر الذي صنع قبولاً لكوريا في بعض المجتمعات الأفريقية بمقدورها استثماره لتعزيز نفوذها في القارة.
لم تكن القمة الكورية-الأفريقية تظاهرة إعلامية، إنما كانت مساحة للعمل الجاد، فقد وقعت سيؤول نحو 50 اتفاقية مع شركاء أفارقة خلال هذه القمة صوبت نحو تعزيز التعاون المشترك في مجالات التعدين والطاقة والصناعة والتجارة، كما وقعت 12 مذكرة تفاهم مع أكثر من 10 دول، منها: مصر والمغرب وتنزانيا وغانا ومالاوي وزيمبابوي ومدغشقر، كما أبرمت نحو 20 عقداً في مجالات استثمارية وغيرها من المجالات.
لم تكتفِ كوريا بما سبق ذكره، فقد تعهدت بتخصيص 14 مليار دولار لدعم استثمارات شركاتها في أفريقيا، وتعهدت بزيادة مساعداتها الإنمائية إلى 10 مليار دولار بحلول 2030، ووعدت بتعزيز تعاونها مع الدول الأفريقية في مجالات الرقمنة، والحكومة الإلكترونية، والتعليم وبناء القدرات، وتغيّر المناخ، والأمن الغذائي والمعادن الحيويّة.
لقد توجت كوريا بهذه القمة علاقاتها الأفريقية، وقفزت بها قفزة مهمة نحو المستقبل، وفتحت لها آفاقاً جديدة وواعدة، الأمر الذي يمكنها من تحقيق مكاسب استراتيجية عديدة تدفع نحو تحقيق شعار القمة: “المستقبل الذي نريد صُنعه معاً: النمو المشترك والاستدامة والتضامن”، غير أن ذلك يقتضي ترسيخ قاعدة رابح رابح في مسارات التعاون الأفريقي-الكوري.