الفنّانُ الحق هو القادر على التعبيرِ عن ذاتِه بما لا يخرج عن حدود خالقه

الدكتور فضل الله أحمد عبدالله
والعنوان أعلاه، جاء مغتذيا بذات حدود الفرضية الكبرى الخاصة بالكاتب الناقد سامح طارق في مقالته الموسمة بعنوان : ( عن الدين والفن ).. مستضيئا برؤى المفكر الإسلامي البوسني علي عزت بيجوفيتش، الذي عمد وبمنهجه العلمي الصارم النظر بثبات ويقين في مسألته ( الإسلام بين الشـرق والغرب ) كاشفا بوضوح شديد عن متلازمة الفن والدين، مستجليا مدى التناغم القائم بين الاثنين.
الفنّ يعبّر عن الدين، والدين يستوعب الفنّ. الاثنان يتعاملان مع الشِق الأسمى من الكيان البشـري.
فالدين هو تأثيرُ السماء على الإنسان الذي يحتويه الفنّ لينطق به، فكيف ينطق عن الشـيءِ شيءٌ يخالفه؟!
كيف يمكن للفن أن يخرج عن إطار الدين ثم يبقى فنا؟! هل يكون مُمكنًا أن يتزاوج الضدّان؟!
الدين والفن مرتبطان بالإنسان منذ أن وجد على وجه الأرض، أما العلم ( المادي ) فهو حديث. وفشل العلم المادي الذي يدور في إطار نماذج مادية في تفسير الإنسان في التحكم فيه هو دليل علي فشله في إدارك الظاهرة الإنسانية وإدراك أن الحلول التي يأتي بها حلول ناقصة.
ويرى إن الفن ابن الدين، وإن كليهما يصدران عن منبع واحد ( توق الإنسان إلى المعنى وتجاوزه حدودَ المادة. )
وبهذا يؤكد أن الفن في جوهره ليس ترفًا أو تسليةً، بل هو شهادة الروح في عالمٍ ماديٍّ صامت.
فكل لوحة، وكل لحن، وكل بيت شعر جميل، إنما هو إشارة إلى ذلك العالم الغائب الذي لا تدركه الحواس، ولكنه يسكن في القلب منذ خلق الإنسان.
وذلك ما ذهب إليه – منذ زمن بعيد – الفنان التشكيلي السوداني البروفيسور أحمد عبدالعال مؤسس مدرسة ” الواحد ” وهي مدرسة أسسها برؤية كلية للفن ، وفقا للمنظور التوحيدي الشاهد بأنه ” لا إله إلا الله ” إذ لابد للفنان المسلم أن ينظر بظلال ألوانه وأبعاد خطوط رسومه إلى جلال الله الواحد الأحد ، فالفن إبداع للحياة ونشاط المسلم في الحياة هي بالضرورة كلها لله. فقال في إحدى بياناته :
( أجد في عملي التشكيلي كل الذي يتوقعه الإنسان من الفن ، لكني لا أجد فيه تمامًا ما ، قد يقبل الناس عليه باسم ” المتعة ” ، وعلى هذا ، فالمتعة في أعمق حالاتها عندي هي طرف قريب وبداية سرعان ما تتحول إلى مجال يتسع باضطراد ، فيه ما فيه من الإدراك والتساؤلات والمقارنات ، وفيه أيضًا من التحقق الفردي قدر أساسي ).
فمن أوجب واجبات المسلم المؤمن، أن يعرف نفسه أولا، وأن يؤمن بالمعرفة وبالحق في المعرفة، وأن يعرف حدوده. وأن الحكمة ضالته فمتى وأينما وجدها فهو أولى الناس بها. وأن يكون ثابتا على ثوابته، وأن يكون مجددا للمتغيرات.
وبناءا عليه، يكون الفن بالنسبةِ له كما جاء في حديث سامح طارق :
( الفنُّ أكبر من مجرّد تعريفٍ لاصطلاح، وإنما هو سبيلٌ لرؤية الكون، وعيناي التي أُبصـِر بهما الحياة، بينما الدين هو النافذة التي تخرج من خلالها النظرات، وتُطلُّ بهما العينان على الوجود. وعليه : فإن استقامت الرؤية مع حُدود النافذة تمتّع الرائي، وإن طغت رغبتُه على حدودِها شُقَّ الجدارُ بأكملِه وأوشك أن يتهدّم عليه، فأزرى بالشعور أو أخطأ الأداة. فالإبداع عندي ليس التميّز في ذاتِه، وإنما هو المقدرةُ الخاصة على ربط الأشياء غير المتوقعة بخيوطٍ ينسجها الفنّان وفق إطار المُتاح الشـرعي الذي سنّه الإله. فمن عجز عن الموازنةِ فهو عن الإبداعِ أعجز. فالفنّانُ الحق – أيّما كان فنُّه – هو القادر على التعبيرِ عن ذاتِه بما لا يخرج عن إطار خالقها الذي وضعه لها.)
الماديون، أو الملحدون، هم أبعد الناس عن إدراك معنى الفن ووظيفته في الحياة، لأنهم لا يعترفون أصلا بالبعد الروحي في الإنسان، بينما المؤمنين يرون في الفن رسالة من السماء، وصدىً من عالمٍ أوسع من هذه الأرض.
الفن مرتبط بالأخلاق، وللأخلاق معيار، والملحد غير عابئ بالأخلاق ولا ببناءه الربّاني… كيفما ظهر المادّيون – حسب جمال الدين الأفغاني – وفي أي صورة تمثّلوا، وبين أيّ قوم نجموا، كانوا صدمة شديدة على بناء قومهم، وصاعقة مجتاحة لثمار أُممهم، وصدعاً متفاقماً في بِنية جيلهم، يُميتون القلوب الحيّة بأقوالهم، وينفثون السمّ في الأرواح بآرائهم، ويزعزعون راسخ النظام بمساعيهم، فما رُزئت بهم أُمّة، ولا مُني بشرّهم جيل، إلاّ انتكث فتله، وسقط عرشه، وتبدّدت آحاد الأُمة، وفقدت قوام وجودها.
وبناء على ذلك كله، يمكن القول ، أن الفنان هو الذي يستطيع واقتدار أن يجمع في عمق أعماقه ، أنغام الإنسانية في علويتها، حتى يصبح مثالا جميلا للتناغم بين الحلم والكائن في الطبيعة، واستقامته كما شرع له الله.
وجوهر قولنا هو ما ابدعه وصفا الكاتب سامح طارق في قوله الماتع :
( أن الفن شعور وأداء، وقد تشعر بما لا عيب فيه لذاته وتسيئ التعبير عنه، أو تسلك مسلكًا محمودًا لتعبيرٍ خائن فتبتذل الأداة. على كُلٍّ، وفي الحالين: فإن ما ستقدّمه سيخلع عليه البعضُ صفةَ الفن، والبعضُ الآخرُ سيخلعها عنه.
أمّا أن تُحسِنُ الأمرين فيتّزن معك كل شيء، فهذا أمرٌ آخر.
أن تسمو في الشعور فتسمو بالأداة فهذا سِحرٌ وإعجازٌ من نوعٍ مُختلِف.
الخالق الذي يخطّ لك المساحات لتتحرك فيها أكثرُ إحاطةً من نفسِك التي تفتح لك أمتارًا قد تودي بك. فهو عندما يحدُّك يخرج بك من ضيقِ نفسِك إلى سعةِ الدارين. ).



