تقارير

الفدية في الفاشر: سوق الاتجار بالبشر

«في اتنين معانا قالوا ما بقدروا يدفعوا الفدية صَفُّوهم قدامنا»، جملة قد تبدو غريبة لدى كثير من الناس، ولكن هو حال الفارين من مدينة الفاشر حاضرة شمال دارفور، منذ استيلاء قوات الدعم السريع عليها في أواخر أكتوبر المنصرم، بعد حصار مُطبِقٍ استمرّ 550 يوماً.

بهذه الجملة استهلَّ محمد بخيت حكايته لـ«أتر»، عقبَ اختطافه من قبل قوات الدعم السريع، ثم إطلاق سراحه بعد دفع الفدية التي فُرِضَتْ على أهله. خرج محمد، الذي يبلغ من العمر 32 عاماً، من مدينة الفاشر قبل أسبوعين من سقوطها في أيدي الدعم السريع، رفقة ثمانية شبان ومعهم أدلّاء يُوصلون الفارّين إلى منطقة طويلة التي تبعد 69 كيلومتراً غرب مدينة الفاشر. عند خروجهم عبر بوابة الأمل (الربوة)، غرب جامعة الفاشر هطلت الأمطار وساد الغبار الأجواء، فانفصلوا عن رفاقهم وأدلّاء الطريق. يواصل بخيت أنهم كانوا ستة شبان خرجوا من غرب المدينة لأوَّل مرَّة ولا يَعرفون عن طويلة شيئاً، لكنهم قرَّروا الذهاب وحدهم فسلكوا الطريق الوحيد الذي يعرفونه. انتهى بهم الطريق إلى الوقوع في قبضة رعاة إبل على الطريق وأوسعوهم ضرباً ووصفوهم بـ«الفلنقايات». يقول محمد بخيت إنّه تعرض «لكل أشكال الإهانة والضرب المُبرِح». ثم سلمهم الرعاة إلى أصحاب المواتر الذين بدورهم نقلوهم إلى قرية أم جلباغ، في ريف الفاشر الغربي. يروي بخيت أنهم ظلوا لثلاثة أيام مُعلَّقين على الحبال ليلاً، ويُربَطون تحت أشعة الشمس نهاراً، وقد ضُربوا بالسياط حتى طَبَعَتْ آثارَها على أجسادهم، ومُنع عنهم الطعام والشراب. في اليوم الرابع طلب منهم خاطفوهم التحدُّث إلى أُسَرهم لدفع فدية مالية مقابل الإفراج عنهم وهدَّدوهم بالقتل حال لم يدفعوها.

تنهّد بخيت قبل أن يضيف أن شابين من رفاقه قُتِلا حالاً بعد أنّ أخبروا الخاطفين بأن أهلهم لن يستطيعوا دفعَ أي مبلغ مالي، وحينما عرف الأربعة المتبقين مصير من لا يدفع قرروا الاتصال بأُسَرهم. يقول بخيت: «لأن النساء في العائلة قد لا يحتملنَ فاجعةَ اختطافنا قرّرتُ الاتصال بصديقي، وشدَّدتُ عليه ألا يُخبر أسرتي بمكاني حتى تُدفع الفدية»، وأضاف أنه تفاوض مع خاطفيه على تخفيض الفدية البالغة 50 مليون جنيه: «أخبرتهم أنني لا أملك حتى ربع هذا المبلغ، وأن كل ما أملك أثاثات داخل الفاشر، وسأطلب من إخوتي بيعها ثم إرسال ما تيسّر».

أضاف بخيت أنّ خاطفيه قرّروا حينها نقله من سجن السوق بأم جلباغ إلى منزل أحد الخاطفين، ووضعوه في راكوبة يحرسه فيها أطفال الخاطفين، وهم يحملون أسلحة، ولا يتحدثون مع المختطفين مطلقاً، ولا يمكن لأحدٍ سؤالهم عن أي شيء. قال بخيت إنه بقي لثلاثة أيام إضافية حتى استطاع دفع الفدية التي خُفّضت بعد مفاوضات إلى 5 ملايين جنيه، ثم أوصله الخاطف إلى قرية قريبة من طويلة. وعند سؤاله عن ضمانات سلامته بعد دفع الفدية، قال إنه ضمن سلامته بعد الفدية لأنه التقى بمُختَطفين غيره بمنزل الخاطف الذي أطلق سراحهم بعد الدفع.

تتبع قرية أم جلباغ لريف الفاشر الغربي، وتبعد عن مدينة الفاشر نحو 37 كيلومتراً تقريباً، وتُعَدُّ من (دامرات) المكونات العربية التي تُساند قوات الدعم السريع منذ اندلاع حرب أبريل. برز اسم هذه المنطقة بعد تواتر حوادث اختطاف المدنيين الفارين من الفاشر، وإحكام قوات الدعم السريع حصارها على المدينة في أبريل الماضي، ليتحول الهاربون من جحيم المدينة المُحاصَرة إلى سلع في سوق الاتجار البشري، إذ يصطادهم رعاة الإبل «الأبّالة»، وهم مليشيات تساند قوات الدعم السريع، ويجمعون المدنيين ثم يقتسمونهم فيما بينهم وينقلونهم إلى أم جلباغ غربي الفاشر أو إلى دامرة كولقي التي تقع جنوب غرب المدينة، وتبعد 7 كيلومترات غرب معسكر زمزم للنازحين. وهناك اتفاق مُعلَن بين الخاطفين من قوات الدعم السريع والمليشيات، على ترك المختطفين في مزارع بالقرب من طويلة، ليتمكنوا من الوصول منها إلى المدينة، وكُل من وُجد قبل أن يصل إلى هذه المزارع يُضحي عرضةً للاختطاف مرة أخرى، وفق معلومات تحصلت عليها مراسلة «أتَر».

متحدثاً لـ«أتر»، يحكي ابن الطاهر عُشر، وهو شيخ في الـ 67 من عمره، كيف أن والده خرج من الفاشر صبيحة سقوط المدينة متجهاً إلى طويلة، وكان مصاباً فلم يستطع السير سريعاً، ووقع في قبضة جنود الدعم السريع، الذين اشترطوا عليه دفع فدية مقابل إطلاق سراحه بالقرب من مدينة طويلة، وإلا سيُترك للموت بتأثير إصابته. يقول ابنه إنه فقد الاتصال بوالده لنحو 5 أيام، قبل أن يُطمْئنه أحد أقاربه على صحة أبيه ويُعْلمه أنه استطاع دفع مبلغ مليونَي جنيه وهو الآن يتلقّى العلاج بمستشفى طويلة.

أما محمد مندي، الذي يبلغ 33 عاماً، فكان آخر ظهور له في مدينة الفاشر قبل سقوطها على أيدي الدعم السريع؛ وتقول شقيقته لـ«أتر» إنهم فقدوا الاتصال به منذ سقوط المدينة، حتى تواصل معهم بعد 10 أيام من اختفائه عبر هاتف لأحد أفراد الدعم السريع، الذين طلبوا فدية مقابل إطلاق سراحه أو قتله حال عدم الدفع. في هذه الأثناء كان شقيقها الآخر قد وقع هو أيضاً في قبضة خاطفين آخرين طلبوا منهم 8 ملايين جنيه. تقول إن أسرتهم الممتدة جمعت الملايين الثمانية وأُطلق سراح أخيها الثاني، لكنهم تأخروا قليلاً في سداد فدية محمد وعندما تمكنوا من تسديد المبلغ المطلوب وقدره 5 ملايين جنيه، كان خاطفوه قد غادروا دارفور نحو كردفان وتركوه مع خاطفين آخرين. تقول إن الخاطفين الأصليين أخبروهم بأن يتواصلوا مع الخاطفين الجدد لإطلاق سراحه، لكن انقطع الاتصال بهم وما زال مصير أخيها مجهولاً.

صبيحة السادس والعشرين من أكتوبر الماضي، شهدت مدينة الفاشر آخر المعارك بين الجيش السوداني وحلفائه وقوات الدعم السريع التي هاجمت المدينة من محاور عديدة وبسيارات مصفحة وبإسناد المسيرات، فسقطت الفرقة السادسة مشاة في الحادية عشرة صباحاً ليَنسحب المُقاتِلون غرباً نحو مبنى سلاح المدفعية وجامعة الفاشر. مع استمرار صد الهجوم على المقريّن واستمرار التدوين المكثف من قوات الدعم السريع، انسحب المقاتلون على نحو عشوائي، فخرج بعضهم مُرْتدياً الزي المدني وبعضهم بسيارات قتالية، ووقع بعضهم في كماين الدعم السريع، بينما أفلت آخرون وتحصنوا بجبال «وانا» على طريق كتم غربي الفاشر فحاصرت الدعم السريع الجبال لنحو خمس ليالي، صد خلالها المُنسحِبون الهجمات. وأثناء محاولات التسلّل والهرب، وقع عدد كبير من الجنود والضباط في الأسْر، ونُقل بعض الأسرى مباشرة إلى سجون الدعم السريع بالميناء البري بالفاشر، ونُقل آخرون منهم إلى سجن دقرسي بمدينة نيالا حاضرة جنوب دارفور.

متحدثاً لمراسلة «أتر» يقول صديق عمر، وهو ملازم أول بالجيش السوداني، إنه خرج مع ستة من الجنود مغرب يوم 26 أكتوبر عبر البوابة الشمالية لمدينة الفاشر، وكانوا قد نُبِّهُوا إلى عدم ذكر رتبهم أمام قوات الدعم السريع، واتفق الجميع على أنهم سيُعرّفون أنفسهم باعتبارهم مواطنين فقط يبحثون عن الأمان خارج الفاشر.

وجد الضابط والجنود أنفسهم في بوابة (أبو لولو) أحد أكثر العناصر دموية بقوات الدعم السريع. قال صديق إنه كان ضمن من ظهروا في مقطع فيديو بثته عناصر الدعم السريع، يُوثّق تصفية أبو لولو للفارين، وأضاف أن أحد الجنود اعترفَ بأنهم مُقاتلون وأخبرهم أن صديق ضابط في الجيش السوداني.

يقول صديق إن أبو لولو أمره بالخروج من وسط المدنيين والجلوس وحده لأنه ضابط، ثم صفَّى المدنيين أمامه، بعدها نُقِلَ على متن سيارة قتالية إلى منطقة قرني بشمال غرب الفاشر، ثم إلى الميناء البري في الناحية الشرقية من مدينة الفاشر، حيث سُلِّمَ إلى جنود آخرين يتبعون للدعم السريع، وعندها شرع في التفاوض معهم لإطلاق سراحه مقابل فدية، وبعد أيام من التفاوض اتفقوا معه على مبلغ 8 ملايين جنيه، إضافة إلى دفع مبلغ الترحيل إلى مدينة مليط التي تبعد 65 كيلومتراً شمال الفاشر، حيث أُطلق سراحه هناك، ليصل إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية. يقول صديق إنه من مليط حتى الحمرا كان يدفع مبالغ طائلة مقابل اصطحابه في سيارات السلع المتجهة إلى كردفان.

عمار الحاج، ضابط بالجيش السوداني، أوضح أنهم عادة ما يجمعون المبلغ المطلوب من دفعة الضابط المُختطف، لذا اعتمد على أن أحد زملائه قد اختُطف بين الفاشر ومنطقة قرني، وبعد تأكد الخاطفين من أنه يتبع للجيش السوداني فَرَضوا عليه فدية بمبلغ 100 مليون جنيه، فأبلغ شقيقُه زميلَه الأسير المُقرّب من دفعته ليَتحدَّثَ بدوره إلى زملاء دفعة عمار الذين جمعوا نحو 50 مليون جنيه لإطلاق سراحه. يقول عمار إن المؤسسة العسكرية لا تدفع للمُختَطفين أو الأسرى، لكن يجري الإفراج عنهم عن طريق التكافل الاجتماعي بين أبناء الدفعة الواحدة. وأوضح الحاج أنهم منذ سقوط الفاشر حتى الآن دفعوا لأربعة من زملائهم كانت مبالغ فديتهم تعجيزية.

تختلف مبالغ الفدية باختلاف الخاطفين، وأحياناً بحسب المُختطف نفسه. فضباط وجنود الجيش السوداني والقوات المشتركة يُفرض عليهم من 20 مليون جنيه حداً أدنى وحتى 100 مليون جنيه. وسجلت مراسلة «أتر» أكثر من 10 حالات لضباط دفعوا ما يزيد عن 40 مليون جنيه مقابل حريتهم. ومن الإفادات التي تحصَّلت عليها مراسلة «أتر» أيضاً، فإن معظم الخاطفين من الأبالة وأصحاب المواتر وهؤلاء لا يسجنون المختطفين بسجون الدعم السريع المعروفة، كما أن حالات الاختطاف تحدث خارج البوابات الشمالية أو الشمالية الغربية لمدينة الفاشر، وينقل الخاطفون المختطفين إلى مناطق كولقي وأم جلباغ بريفي الفاشر، عدا حالات قليلة نُقلت إلى الأحياء الطرفية البعيدة عن مُعتقلات الدعم السريع المعروفة في مدينة الفاشر. كذلك لاحظت مراسلة «أتر» أن مبالغ الفدية ترتفع بمرور الوقت، فمثلاً تراوحت أغلب مبالغ الفدية في اليوم الأول لسقوط المدينة بين مليون جنيه و10 ملايين جنيه، لكنها ارتفعت بعد عدة أيام من السقوط ليصل سقفها إلى 100 مليون جنيه. كما أن التواصل بين الخاطفين وذوي المُختَطف يجري إما عبر واتساب أو فيسبوك. كما تجري جميع عمليات الدفع للخاطفين عبر تطبيق بنكك.

يروي أحد المقاتلين بالقوات المشتركة لحركات الكفاح المسلح، أن رفيقه وهو قائد معروف بالقوات، قد أُسر أثناء خروجه من مدينة الفاشر وعندما تعرف عليه الخاطفون هددوه بدفع 50 مليون جنيه، وإلا فسيسلمونه إلى قيادة الدعم السريع التي تبحث عنه منذ ساعات السقوط الأولى. يقول المقاتل إنهم عندما علموا باختطاف رفيقهم جمعوا مبلغاً مالياً وانتظروا تواصله معهم أو مع أسرته، وعندما اتصل سارعوا إلى دفع المبلغ قبل أن يُغيّر الخاطفون رأيهم أو يضاعفوا المبلغ، ومن ثم أطلقوا سراحه بالقرب من منطقة طويلة.

وأضاف ذات المقاتل بالقوات المشتركة أن رفيقاً آخر له أُسر رفقة أحد الضباط الميدانيين التابعين للقوات المُشتركة، وكان مصاباً إصابة بليغة. هدد الخاطفون أسرته بدفع الفدية أو تركه يموت بالنزف، وقال إنهم دفعوا المبلغ وقدره 50 مليون جنيه للخاطفين، لكن الضابط توفي متأثراً بإصابته، فتواصلوا مع الخاطفين لاسترداد المبلغ، لكنهم رفضوا وحظروهم من وسائل التواصل الاجتماعي.

أضاف المُقاتل أنهم تواصلوا مع بنك الخرطوم وطلبوا الحجز على الحساب الذي تسلَّم المبلغ، وتمكنوا من ذلك، وما زالوا حتى الآن في انتظار الإجراءات القانونية لاستعادة المال. وقال إن هذه الحالة هي الوحيدة من بين الحالات التي يعرفها دُفعت فديتها في حساب واحد فقط، لأن عناصر الدعم السريع عادة ما يرسلون أرقامَ عدة حسابات للدفع إذا كان المبلغ كبيراً.

وأشار المُختَطفون أيضاً إلى أن هنالك منطقة وسيطة يُترك فيه الذين يدفعون ثمن حريتهم وهي مزارع شرق طويلة، حيث يَصطحب أصحاب المواتر المُختَطفين من أم جلباغ أو كولقي إلى هناك، ومن لم يُترَكْ في المكان المُحدَّد الذي يَعلمه الخاطفون بالتنسيق بينهم، ستختطفه مجدداً جماعة أخرى، وعندها سيضطر إلى دفع الفدية مُجدّداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى