رأي

العربَّية في السودان: سيادة الواقع أم أحقيَّة التفوُّق؟

خالد محمد أحمد

في خاتمة مقالةٍ سابقة كتبتُ ما يلي:

“الخلاصة، أن العدالة لن تتحقَّق بتمزيق (شهادة الميلاد العِرقيَّة والثقافيَّة) لأحد، بل بترسيخ مبدأ أنْ لا عرق أفضل من عرق، ولا لغة أو ثقافة أحقّ من أخرى بالسيادة، وبإرساء أسس العدالة، وردِّ المظالم، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه. أما الاستغراق في مطاردة (شبح العروبة)، فلن يقود إلا إلى الانزلاق في حلقةٍ مفرغة تستنزف الطاقات وتستنسخ الأزمة بلا نهاية؛ فالمشكلة ليست في العروبة ولا في نفيها، بل في الظلم الذي يُسوَّغ باسمها”.

جاءني تعليقٌ على تطبيق (واتساب) على هذه الخلاصة، يقول صاحبه هذا المعنى:

“إذا كنتَ ترى أنه لا لغة أحقّ من أخرى بالسيادة، فكيف نفسِّر سيادة اللغة العربيَّة في السودان؟ أليست هذه أحقيَّة؟”

في تقديري، هناك التباسٌ بين أحقيَّة السيادة وواقع السيادة؛ فالأحقيَّة تعني تفوُّقًا ذاتيًا للغة أو ثقافة على غيرها، كأنْ تكون مُفضَّلة بحُكم (استحقاقٍ جوهريّ)، وهذا ما لم أقصده. أما واقع السيادة، فهو نتاج التاريخ والسياسة والاقتصاد وعوامل الهيمنة التي تجعل لغةً ما أوسع انتشارًا وأقوى حضورًا في المجال العام، حتى لو لم تكن أحقّ من غيرها من حيث القيمة أو الجدارة.

تأسيسًا على ذلك، فإن العربيَّة لم تَسُد في السودان لأنها أحقّ بحُكم تفوُّقٍ فُرِض بقرارٍ بين عشيَّة وضحاها، بل جاء ذلك من خلال واقعٍ تشكَّل على مدى قرونٍ من التفاعل الشعبي بفعل التداخل الثقافي والديني، ثم سياسات الدولة الحديثة التي اعتمدت العربيَّة لغةً للتعليم والإدارة والإعلام. وهنا لا بُدَّ من التنويه إلى خصيصةٍ جوهريَّة؛ فالعربيَّة ليست لغةً ثقافية فحسب، بل هي لغة دينٍ عالمي، وهو وضعٌ استثنائي لا يتوفَّر لكلِّ اللغات.(ولكن يجب التنبيه إلى أن هذه الخصوصيَّة لا تعني تفوُّقًا جوهريًّا أو أحقّيَّة ذاتيَّة للغة، بل هي مكانةٌ اكتسبتها العربيَّة من ارتباطها بالنصِّ الديني والتجربة الروحيَّة للمسلمين).

لننظر إلى تجربة جنوب السودان القريبة؛ فبعد أن نال الجنوبيون استقلالهم، كان يُفترَض أن يجدوا في لغاتهم المحليَّة ملاذًا لهُويَّتهم الثقافية، لكن الواقع دفعهم إلى اعتماد الإنجليزية لغةً رسميَّة في الدواوين الحكومية، واللجوء إلى (عربي جوبا) وسيلةً للتواصل اليومي، وخاصةً في الحواضر. لماذا؟ لأن الخيارات الأخرى لم تكن واقعيَّة أو عمليَّة في بلدٍ شديد التعدُّد.

حتى في المملكة المتحدة، ورغم وجود إرثٍ لغوي متين كالويلزية والغيلية، ورغم الاعتراف ببعض اللغات المحليَّة رسميًا ومحاولات إحيائها، فإن الإنجليزية طغت وما زالت تطغى على المشهد لِما لها من سطوةٍ عالمية، إلى درجة أن معظم هذه اللغات يواجه خطر الاندثار على مستوى اللغات المحكيَّة. فكيف ببلدٍ متعدِّدٍ مثل السودان، حيث لا تكاد تُحصى لغاته ولهجاته؟

لا أحد يُنكر أن المحافظة على اللغات المحليَّة والحرص على توريثها للأجيال الجديدة أمرٌ محمود يستحق التشجيع؛ فهذه اللغات ليست مجرَّد وسائط للتخاطب، بل حوامل للذاكرة والتاريخ والهُويَّة. غير أن الدعوة إلى اعتمادها جميعًا في المناهج الدراسية والإعلام على أساسٍ مطلبيٍّ آنيٍّ هو أمرٌ فيه مجافاة للواقع والمعقول. وإذا فُتِِح هذا الباب، فلن يقبَل أهل أيّ لغةٍ حَّية باستبعاد لغتهم. وسنجِد أنفسنا في متاهة نزاعٍ لغوي جديد لا يقلُّ حِدَّةً عن النزاعات السياسية والإثنية. اندثار اللغات بفعل هيمنة لغاتٍ أخرى أمرٌ طبيعي للأسباب آنفة الذكر؛ فاللغة كائنٌ يُولَد، ويشبُّ عن الطوق، ويشيخ، وقد يموت.

الخلاصة أن سيادة العربيَّة في السودان واقعٌ تاريخي وسياسي وثقافي، لا أحقيَّة جوهريَّة. ومن واجبنا أن نوازن بين الاعتراف بهذا الواقع وبين صون لغاتنا المحليَّة بالتوثيق والتعليم غير الرسمي، ودعم مبادرات إحيائها. وبذلك، يمكننا أن نُبقِي على التنوُّع حيًّا من دون أن نُحوِّله إلى معركةٍ خاسرة ضدَّ قوانين التاريخ وضغوط الهيمنة الثقافيَّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى