الطيب صالح في الامم المتحدة

الطيب صالح
“كذلك كنت أول عربي يرسلونه إلى نيويورك لـتغطية اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذلك الحدث المشهود الذي أمه معظم زعماء العالم، وكنت شاهداً حين خلع نيكيتا خروشوف حذاءَه، وضربَ به المائدة احتقاراً، ورئيس وزراء بريطانيا واقفاً يخطب.
رأيتُ أعضاء نيجيريا يدخلون القاعة في ثيابهم الفضفاضة، والدنيا لا تسعهم من الفرح، يتقدمهم ذلك الرجل الوقور سير أبو بكر تفاوا بليوه. كانت نيجيريا قد استقلّت توّها وقبلوها عضواً في منظمة الأمم المتحدة. ذبحوه ذبحاً بعد ذلك، كما ذبحوا أحمدوا بللو السردوانا الجليل في هوجة من هوجات الجُند التي يسمونها ثورات.
وكنتُ شاهداً حين أعلن داج همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة أنه لن يستقيلُ كما طالبَ الاتحاد السوفياتي. مرّت الأعوام ولعبت الولايات المتحدة الدور نفسه إزاء صاحبنا أحمد مختار أمبو مدير عام منظمة اليونسكو، يومذاك في نيويورك شنَّ خروشوف حرباً شرسة ضد همرشولد واتهمه بأنه ذيل الغرب وأنه مسؤولٌ عن مقتل باتريس لومومبا وكلّ المآسي التي حدثت في الكونغو.
وأذكر جملةً قالها همرشولد في خطابه القصير الذي أعلن فيه أنه باقٍ في منصبه. قال موجهاً حديثه لزعماء دول العالم الثالث “هذه المنظمة لم تقُم لخدمة الدول الكبرى، إنها أنشئت لخدمتكم أنتم، فأنتم الذين تحتاجون لها لا الدول الكبرى”.
كان العرب في ذلك الاجتماع مُجمعين على نُصرة القضية الفلسطينية وتأييد كفاح الجزائر الذي كان قد أينع وحان قطافه، ومختلفين على كل ما عداهما.
لكنني كنت غضَّ الإهاب جداً، وكذلك العالم العربي، ومصر وسورية متّحدتين، ودمشق الفيحاء فيحاء بحق وحقيق، والقاهرة الظافرة تصنعُ أحلاماً تبدو كلها قريبة المنال.
صلاح جاهين يكتب وأم كلثوم تغني، وعبد الوهاب [يلحن]. وصباح تهتف، كأنها تصدّق ما تقول” أنا عارفة السكة لوحديّة، من الموسكي لسوق الحميدية”.
مسكين سوق الحميدية، كان تلك الأيام حول الجامع الأموي العتيد، كما كان على أيام هشام بن عبد الملك. لم يكونوا قد أزالوا بعد، ذلك الماضي السحيق العريق ولم يشقّوا طرق الإسفلت.
ولبنان كأنّهُ في حلمٍ جميلٍ لن ينتهي. المال يتدفّق من كل الجهات، كما قال الشاعر القطري” البيت فاض ومصبّ السيل لبنان”، والمصارف لا تدري أين تضع “البيزات”، واللّيرة مثل الذهب، والمطاعم والمراقص والملاهي غاصّة بالخَلق من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر، ونساء بيروت على طول الساحل يستقبلن شمس البحر المتوسط وكأن ذلك الزمان الرغد سوف يدوم إلى الأبد، كان أخونا نزار قباني يكتب شعراً يُبكي العذارى في خدورهن ويجعل العجائز يتحسّرن على شبابهن، وقال بيتَين سار بهما الركبان:
أيلولُ للضَّم
فمُدّ لي زندكْ
هل أخبروا أمّي
أنّي هُنا عندكْ”



