رأي

الشعوبي دونالد ترمب بداية تفكك امريكا (2-2)

 

علي عسكوري

*خطورة المنهج الشعبوي أنه يغذي بصورة مباشرة النزعات الانفصالية، ذلك بالضبط ما حدث في أوروبا بعد معاهدة وستفاليا, انتجت الشعوبية في أوروبا مناطق يصعب القبول بها كدول، لا مساحة ولا سكانا، فمثلا دولة مثل لوكسمبورج مساحتها حوالي 2600 كلم مربع وسكانها حوالي 700 ألف نسمة، اما ليشنشتاين فمساحتها حوالى 62 ميل مربع (نعم 62 فقط) وسكانها حوالي 40 ألف نسمة فقط، وهكذا يمكن أن تقيس على ذلك دول مثل الفاتيكان، سان مورينو، وجبل طارق ومالطا وغيرها.

*لا شك عندي أن النهج الشعوبي الذي يتبناه الرئيس ترمب سيغذى وسيقود تدريجيا إلى تفكك أمريكا إلى دويلات كثيرة, بالطبع هذه حتمية تاريخية تسير ببطء لن تحضرها اجيالنا ولكن لا مفر منها، فامريكا مهما قويت لن تخرج عن حتميات التاريخ والصراع الازلي بين البشر وبحثهم المضني عن مجتمع يوفر لهم العدالة وتحقيق ذواتهم, وللأسف فأمريكا رغم أنها معروفة بأرض الحريات والفرص، لم تحقق ذلك, فرغم الثراء الفاحش عند البعض، ما يزال حوالي 13% من سكانها يعيشون في فقر (حوالي ٤٥ مليون)، أو ما يقارب كل سكان السودان تقريبا.

*تصريحات ترمب عن ضم كندا والمكسيك وقناة بنما تعيد لنا ذكريات تاريخ الاوروبيين واندفاعهم لاستعمار الشعوب الاخري والتوسع على حسابها ونهبها وما اسموه حينها (بحق الفتح). وفي نهاية الامر نهضت الشعوب وطردتهم وهكذا انهارت امبراطورياتهم وتآكلت وانزوت وذهبت ريحها..(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ) (سورة الدخان).

*الراجح عندي أن تصريحات ترمب تسببت في قشعريرية ليس فقط في الدول التي اشار إليها، بل غالبا داخل الجيش الامريكي نفسه، إذ لن يجد قادة الجيش مثلا مبررا لغزو كندا او المكسيك او اى دولة أخرى، خاصة وأن أمريكا قد دحرت من قبل في مناطق كثيرة في العالم, ستتسبب تلك التصريحات في تغذية الشكوك في اوروبا ايضا، حتي عند صديقتهم المقربة انجلترا، اذ ما تزال كندا تحت التاج البريطاني، وسيقول الاوروبيون لانفسهم :إن كان لأمريكا اطماع في ضم كندا والمكسيك فبالضرورة لها اطماع سرية في ضم اوروبا, و للأوروبيين شكوك قديمة حول مواقف امريكا ونواياها تجاههم (راجع مقالى: أوروبا وأمريكا: هل حان الفراق).

*خلافا لما يراه الكثيرون حول قوة امريكا ومنعتها، اعتقد ان امريكا دولة هشة من الداخل عكس روسيا، وان توجهات ترمب الشعوبية ستغذى لامحالة نزعات استقلالية داخلية، فمنطق (امريكا اولا) سيقود لمنطق (ولايتنا اولا) وسيتصاعد تناقض الأولويات بين الولايات المختلفة ليغذى النزاعات الاستقلالية عند الولايات لا محالة، خاصة لو اتبع ترمب تصريحاته تلك بالعمل.

*ختاما، وما يمكن قوله هو ان (الحضارة الغربية) قد بلغت مداها وافلست ولم يعد لها ما تقدمه للبشرية، فبذات الصيرورة التى تآكلت بها الامبراطوريات الاوروبية ستتآكل الهيمنة الامريكية، وما انتخاب رئيس شعوبي الا اكبر دليل على افلاسها، فالتاريخ لا يعود للوراء وقد سقطت الشعوبية منذ قرابة القرن. فها هي امريكا بكل علمائها ومفكريها وكتابها ومثقفيها لا تجد من يقودها سوي شخص اقرب للمصارع منه الى القائد، بلا فكرة سوى الاطماع الامبريالية وتحقيقها بقوة وجبروت الدولة. وبدأ واضحا ان معين المفكرين والمثقفين الامريكان فيما يتعلق ببلادهم ومواطنيهم وتوجهاتها قد نضب، فركبوا قطار الدهماء.

*ولربط ما يدور في امريكا وتوقعاتي بما ستؤول إليه بحالنا في السودان، اشير إلى أن أهم ما تسبب في الأوضاع الحالية والتدهور الذى انتهينا اليه من واقع مرير في جوهره ماهو الا نتيجة القمع الطويل للمفكرين والمثقفين والكتاب الوطنيين تحت الانظمة العسكرية منذ عبود انتهاء بالبشير ودولته الدينية المتطرفة التى تفننت في قمع المثقفين الذين إما هاجروا او صمتوا توخيا للسلامة، ومع اختفاء قادة الرأي في عهد البشير نهض بعض الرجرجة يدعون لجهوية ومناطقية وقبلية (شعوبية محلية متخلفة) فى محاولة لملء الفراغ الفكرى في البلاد فتقاصرت قاماتهم عن ذلك فسقطت البلاد الى ما هي عليه اليوم، واصبحنا نرى مجموعة تقول انها تقاتل من اجل الديمقراطية ولكنها تستهدف مجموعات قبلية تسميها باسمها لابادتها، والقحاتة صامتين.

ملعون ابو الديمقراطية

هذه الأرض لنا

نقلا عن موقع “أصداء سودانية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى