د. محمد حسب الرسول
لم تكن علاقات الدعم السريع محصورة في دولتين خليجيتين، وفي الدول الغربية ودولة الكيان الصهيوني فقط، إنما امتدت علاقاتها إلى روسيا التي استقبلت قائد قوات الدعم السريع عشية حربها في أوكرانيا بترتيب من شركة فاغنر التي تعتبر شريكاً مهما جداً لهذه القوات، إذ بنيت الشراكة بينهما على مسارين؛ اقتصادي يتصل بالاستثمار في مجال تعدين الذهب واليورانيوم والألماس في السودان وأفريقيا الوسطى، ومسار عسكري، إذ تقوم فاغنر بعملية تدريب منسوبي الدعم السريع وتوفير احتياجاتها العسكرية، كما تسهم في إدارة العمليات العسكرية خلال هذه الحرب.
ظلت “دولة” الكيان حاضرة خلف الآلية الرباعية التي تعبر عنها، وهي صاحبة المصلحة الكبرى في السودان، وليس أدل من حضورها في المشهد السوداني من استنساخ المشروع الصهيوني في فلسطين والسعي لتنفيذه في السودان. محاولة السيطرة على السودان تمر الآن بالمراحل نفسها التي استخدمتها الحركة الصهيونية في فلسطين.
وما قامت به منظمة “هاجانا” التي تأسست في فلسطين عام 1921 في تأسيس “دولة” الكيان يشابه ما تقوم به منظومة الدعم السريع، بل إن الأخيرة تضطلع بالدور ذاته الذي قامت به الأولى، إذ قامت بدور عسكري مشابه للدور العسكري لـ”الهاجانا”، وكررت الدور نفسه الذي قامت به “الهاجانا” في عمليات تهجير الفلسطينيين، وفي عمليات التطهير العرقي، وفي عمليات الاستيطان، وفي إنشاء المستوطنات.
ولئن ارتبطت “الهاجانا” بمنظمة “الهستدروت” (النقابات الصهيونية) و”الماباي”، فإن الدعم السريع يرتبط بنظراء لهذه المنظومات على المستوى المحلي تشكل له ظهيراً سياسياً، ومثلما أصبحت “الهاجانا” نواة لـ”جيش” الكيان الصهيوني، فإن الظهير السياسي للدعم السريع أعلن عن ضرورة تشكيل جيش (وطني) جديد تكون قوات الدعم السريع نواة له، فكم هي أوجه الشبة بين حالة فلسطين قبل 1948 وحالة السودان الآن؟!
السودان من المنظور الديني الصهيوني
يحظى السودان بأهمية كبيرة في منظومة التفكير والعقائد الصهيونية، ويعد الكتاب المقدس أهم مصدر لهذا الاهتمام، فقد ورد اسم السودان فيه 55 مرة تحت اسم كوش، ووصفه هذا الكتاب بأرض حفيف الأجنحة، وقد جاء في سفر إشعياء الآية 520: “يا أرض حفيف الأجنحة التي عبر أنهار كوش”، وجعلها ذات السفر رجاءً حين قال: “فَيَرْتَاعُونَ وَيَخْجَلُونَ مِنْ أَجْلِ كُوشَ رَجَائِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ مِصْرَ فَخْرِهِمْ”، وجاء في سفر إشعياء 433: “لأَنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ، مُخَلِّصُكَ جَعَلْتُ مِصْرَ فِدْيَتَكَ، كُوشَ وَسَبَا عِوَضَكَ”، وجاء في سفر عاموس 79: “أَلَسْتُمْ لِي كَبَنِي الْكُوشِيِّينَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، يَقُولُ الرَّبُّ؟”، وقال سفر ناحوم 3:9 “كُوشٌ قُوَّتُهَا مَعَ مِصْرَ”، وجاء في سفر إشعياء 18 :1″فأبحر الملك طهارقة خلفاً لوالده بعنخي إلى منطقة الهلال الخصيب لحماية أورشليم من الآشوريين”.
ويحظى السودان كذلك باهتمام خاص من بعض الجماعات الدينية التي ترى أن أجزاء واسعة من السودان هي جزء من جغرافيا حياة نبي الله موسى، وبشكل خاص مولده وإلقاؤه في اليم والتقاطه جنوب مصر ولقاؤه بالرجل الصالح في مقرن النيلين الأزرق والأبيض، والصخرة العظيمة التي تدل على موقع هذا اللقاء، والتي يزورها اليهود كل عام، فضلاً عن اهتمام هذه الجماعات بمنطقة شرق السودان، التي تعتقد أن نبي الله موسى قد كلم الله في بعض جبالها (علماً بأن الجماعات اليهودية لا تجتمع على هذا الرأي، كما أن غالب المسلمين لا يوافقونه).
وقد شاعـت أنباء عن عمليات قطع طالت جبلاً في هذه الولاية منذ حقبة حكم الرئيس جعفر نميري، واستمرت حتى بداية الألفية الجديدة، وتم تصدير حجارته إلى دولة أوروبية. ومن تلك الحجارة تم قطع وتجهيز مكونات هيكل سليمان البديل، وتم ترحيل هذه القطع إلى داخل فلسطين لأن الأحكام التي استنبطها الحاخامات تقتضي بناء الهيكل من حجارة مباركة وفق الأحكام التوراتية.
السودان في المنظور الاستراتيجي الصهيوني
لقد جعلت “دولة” الكيان الصهيوني حدودها من النيل إلى الفرات، ونهر النيل الذي يتكون في الخرطوم من النيلين الأزرق والأبيض ويتدفق نحو الشمال باتجاه مصر له مكانة خاصة في المنظور الاستراتيجي الصهيوني شأنه شأن الفرات، وصممت علمها ليعكس أهمية النهرين من منظورها الاستراتيجي، ورمزت لهما بخطين أزرقين في أعلى وأسفل العلم بينهما نجمة داؤود، في تكامل بين الديني والاستراتيجي.
في شهر آب/أغسطس 2008، قدم وزير الأمن الصهيوني آنذاك آفي ديختر محاضرة في معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي عن الاستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، تناول خلالها الرؤية الاستراتيجية للكيان الصهيوني تجاه 7 دول، هي فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وإيران ومصر والسودان.
لخص ديختر الرؤية الاستراتيجية الصهيونية تجاه هذه الدول بمقولته: “إن إضعاف تلك الدول واستنزاف طاقاتها وقدرتها هو واجب وضرورة من أجل تعظيم قوة إسرائيل، وإعلاء منعتها في مواجهة الأعداء، وهو ما يحتم عليها استخدام الحديد والنار تارة، والدبلوماسية ووسائل الحرب الخفية تارة أخرى”.
وقال إن السودان، بموارده ومساحته الشاسعة، من الممكن أن يصبح دولة إقليمية قوية منافسة لدول مثل مصر والعراق والسعودية، وإنه يشكل عمقاً استراتيجياً لمصر، وهو ما تجسّد بعد حرب 1967، عندما تحول إلى قواعد تدريب وإيواء لسلاح الجو المصري والقوات الليبية، كما أنه أرسل قوات مساندة لمصر في حرب الاستنزاف عام 1968. وبناء عليه، بحسب ديختر:
– لا يجب أن يسمح لهذا البلد بأن يُصبح قوةً مضافةً إلى قوة العرب.
– لا بدَّ من العمل على إضعافه وانتزاع المبادرة منه لمنع بناء دولة قوية موحدة فيه.
– سودان ضعيف ومجزأ وهشّ أفضل من سودان قوي وموحّد وفاعل.
– ما سبق يمثّل من المنظور الاستراتيجي ضرورة من ضرورات الأمن القومي الإسرائيلي.
مصالح “دولة” الكيان الصهيوني في السودان
يمثل موقع السودان الجيواستراتيجي والجيوحضاري مركز اهتمام كبيراً لـ”دولة” الكيان الصهيوني يمكن أن يكون لمصلحة مشروع التحرر والاستقلال الوطني والقومي في الوطن العربي وفي قارتي آسيا وأفريقيا، إن تمكّنت من بسط نفوذها في السودان حدّت من مخاطره عليها، لكونها مشروعاً كولونيالياً متعدد الأوجه والأهداف، وإن أفلت السودان منها وتحرر من نفوذها وقف في الضفة الأخرى المقابلة لها، كما كان منذ قيام “دولة” الكيان.
لـ”دولة” الكيان الصهيوني مصالح اقتصادية في السودان الذي يتمتع بموارد اقتصادية هائلة ظلت هدفاً لـ”دولة” الكيان الوظيفية التي أقامها الغرب لتكون قاعدة اقتصادية متقدمة له حيث الموارد الاقتصادية وحيث مدخلات الإنتاج المتنوعة التي عرفت بها قارتا آسيا وأفريقيا، وحيث الأسواق التي تعتبر الأكبر في العالم، لأنها سوق لستة مليار نسمة يشكلون مجموع سكان القارتين.
ولهذا الكيان كذلك مصالح سياسية في السودان، يحققها أو يخسرها وفقاً لموقعه في المسرح السوداني، ومن هذه المصالح موقف السودان من القضية الفلسطينية، وتأثيرات هذا الموقف في الفضاء الأفريقي، وبخاصة في أفريقيا جنوب الصحراء، وله مخاوف أمنية في السودان الذي ظل داعماً للقضية الفلسطينية في كل الحروب التي بدأت منذ حرب 1948 وحتى عملية سيف القدس، حيث كان للسودان مساهمة فيها كلها مشاركاً وداعماً لفلسطين، يمكن لهذه المخاوف أن تتحول لمصالح في حال تمكّن مع الغرب من تنصيب نظام حكم موالٍ لهما.
مستقبل الحرب
يقول خبراء عسكريون إنَّ المعركة العسكرية حسمت في الأسبوع الأول من الحرب حين قام الجيش بتدمير جميع المراكز العسكرية لقوات الدعم السريع في ولاية الخرطوم، وأنّه تمكن كذلك من تدمير منظومة القيادة والاتصال الخاصة بها، كما قام بتدمير غالب قدراتها العسكرية، وقضى على أكثر من 70% من قواتها المقاتلة، وأنَّه مسيطر على جميع ولايات السودان البالغ عددها 18 ولاية، وأنّ الجيش يتمتع بتأييد واحتضان شعبي غير مسبوق، وقد ترجم الشعب ذلك في حجم الدعم اللوجيستي الذي قدمته الولايات بقراها ومدنها للجيش، ومن خلال تطوع عشرات الآلاف من الشباب والشابات للقتال إلى جانب الجيش.
وبرغم ذلك، بات واضحاً أن انتشار ما تبقى من قوات الدعم السريع داخل الأحياء السكنية وفي بيوت الموطنين وداخل المؤسسات الصحية والخدمية الأخرى قد صنع تحدياً أمنياً كبيراً يتعامل معه الجيش بتؤدة ونفس طويل. وقد نشأ إلى جانب هذا التحدي تحدٍ دبلوماسي وسياسي من واقع إحساس الغرب وشركائه الإقليميين والمحليين بفشل مشروعهم للسيطرة على السودان من خلال استخدام القوة العسكرية التي سهروا على إعدادها لهذه المهمة، ووفروا لها كل متطلبات النجاح المادية.
لهذا، بذل الغرب وشركاؤه جهوداً كبيرة لإنقاذ الموقف، واستنقاذ ما تبقى من قوات الدعم السريع، والسعي لتوفير الفرص لها لالتقاط أنفاسها، وسد حاجاتها من العتاد العسكري والمؤن عبر فرض أكثر من هدنة من خلال منصة جدة، ثم محاولات الغرب المتكررة لتوظيف الآليات الإقليمية، مثل الاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد، لاستعادة الملف السياسي الذي أضاعته الحرب، والعمل على إحياء الاتفاق الإطاري، وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 15/4/2023، وإعادة حلفائهم في تحالف الحرية والتغيير إلى السلطة في إطار شراكة جديدة بين شركاء الانتقال، بيد أن الرأي العام الشعبي الرافض لذلك شكَّل حالة من الضغط على قيادة البلد والجيش قوتها أمام الضغوط الغربية حتى الساعة.
إلى جانب الملفات الأمنية والدبلوماسية والسياسية التي تحولت إلى تحديات بالغة الدقة، ظل تحدي الإعلام يمثل خطراً كبيراً، إذ ما تزال المنصات الإعلامية الفضائية والرقمية التي تتركز في منطقة الخليج تمارس أقسى أساليب الحرب والحرب النفسية، في مقابل ضعف بائن وكبير لإعلام الدولة.
ثمة فرص كبيرة يمكن استثمارها من قبل الدولة والقوى الوطنية تتمثل في الالتحام الشعبي مع الجيش خلال هذه الحرب، وهناك ما يشبه الإجماع بين المكونات الاجتماعية في السودان كله، وفي دارفور بشكل خاص، وهو ما يمكن توظيفه في تحصين وتقوية وحدة المجتمع السودان لصون وحدة السودان، وللمساهمة في تقصير أمد الحرب من خلال إشاعة الوعي، وفي منع توفير وقودها المتمثل في المقاتلين المحليين أو القادمين من وراء الحدود لما لهذه المكونات من قدرة تمكنهم من ذلك، ومن خلال قيادة جهود مجتمعية تهدف إلى تحقيق توافق وتراضي وطني حول الأجندة الوطنية التي تمكن من وقف الحرب وتوفير عناصر نجاح الفترة الانتقالية وتوفير عناصر استدامة الأمن والاستقرار.
إنَّ الاستثمار في قدرات المجتمع السودان وتوظيفها لمصلحة عمليات بسطة الأمن والطمأنينة، وتحصين البلد من التدخل الخارجي، وحماية سيادتها ووحدتها وهويتها، ودفع جهود التحول الديمقراطي، كفيل بوضع السودان في منصة جديدة قادرة على مقارعة الصعاب والتحديات والخطوب.
توصيات:
توظيف الطاقات الشعبية العربية لدعم السودان في مواجهة التحدي الوجودي الذي كان التدخل الخارجي في شؤونه الداخلية أحد أبرز أسبابه.
تعزيز جهود المجتمع السوداني الهادفة إلى حماية استقلال السودان، وصون استقلاله، والمحافظة على وحدة ترابه وشعبه.
التأكيد على دور المؤسسة العسكرية السودانية كضامن لوحدة السودان أرضاً وشعباً، ولكونها تمثل أحد أهم ممسكات الوحدة الوطنية وركائزها، والتأكيد على ضرورة صونها من الاضعاف والتفكيك، والعمل من أجل المحافظة عليها وتمكينها من الاضطلاع بدورها الدستوري والحصري في حماية الامن القومي السوداني ومقابلة التحديات التي تواجهه.
تمكين المجتمع السوداني من اجتراح الحلول لأزماته وفقاً لإرادته الوطنية الحرة وبعيداً من التدخلات الخارجية ومن سياسة فرض الحلول والوصايا، والدعوة لتعزيز التوافق والتراضي الوطني المفضي إلى إنهاء الحرب وإلى استشراف مستقبل جديد للسودان يعمه الأمن والاستقرار والرخاء.
دعوة الدول العربية للمساهمة الفاعلة في عمليات اعادة اعمار ما دمرته الحرب، وتجديد الدعوة لتعزيز الشراكات الاقتصادية مع السودان لتحقيق الأمن الغذائي العربي بوصفه عنصر رئيس من عناصر تحقيق الأمن القومي العربي.
الدعوة إلى إعادة السلطة إلى الشعب ليختار برامج الحكم التي تخاطب تطلعاته، والحكام الذين يتمتعون بثقته عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة بسرعة ودون إبطاء تأسياً بتجارب الانتقال التي أرسى قواعدها في تتجربتي 1964، و1985.