رأي

السنعوسي.. الرقص بساق البامبو

فيما أرى 

عادل الباز 

(1)

«لو أنهما اتفقا على شيء واحد فقط.. بدلاً من أن يتركاني وحيداً أتخبط في طريق طويلة باحثاً عن هوية واضحة الملامح.. اسمٌ واحدٌ ألتفت لمن يناديني به.. وطن واحد أولد به.. أحفظ نشيده.. وأرسم على شوارعه وأشجار ذكرياتي.. دِينٌ واحدٌ أؤمن به بدلاً من تنصيب نفسي نبياً لدين لا يخص أحداً سواي». بهذه العبارات لخَّص الكاتب الكويتي سعود السنعوسي كُلَّ شيءٍ في روايته البديعة.

(2)

البطل مثل ساق البامبو.. بلا جُذُور ولا انتماء لها.. تُغرسُ في أي أرض، فلا يلبث أن يمتدَّ ساقها طويلاً بلا ذكرى وبلا ماضٍ، هي بالضبط مثل كاوايان في الفلبين.. والخيزان، أو “السلعلع” في السُّودان. ذلك هو ما وصف به سعود السنعوسي بطل روايته المدهشة “ساق البامبو”، التي حازت على جائرة البوكر العربيَّة في العام 2013.

(3)

لم يكن السنعوسي يكتب رواية محض خيال، إنما كتب عن أزمة كبرى تتعلق بصورة الآخر في مجتمعاتنا العربيَّة، العُمق الذي تمتعت به الرواية وقيمتها الفنيَّة والأدبيَّة وطريقة السَّرد المدهشة، هي التي جعلتها تعتلي قمَّة روايات البوكر التي شاركت فيها كثير من الأسماء الأدبيَّة الشهيرة، ولكن لجنة التحكيم آثرت النظر للنصِّ لا للأسماء الكبيرة التي نضب إبداعها ولا تزال تحاول فرض نفسها على الساحة، (منسي قنديل نموذجاً). وصفت لجنة التحكيم الرواية: «إنها محكمة البناء وتتميَّز بالقوَّة والعُمق، وتطرح سؤال الهُويَّة في مجتمعات الخليج العربي». الحقيقة أنها تطرح ذلك السؤال على مجتمعاتنا العربيَّة كلها، إذ لا يزال سؤال الهُويَّة يُقلقها ويحظى بأكثر نقاشاتها حدَّةً وعُمقاً.

(4)

في ليلة عاصفة وداخل مركب في عُمق البحر، وُلدت الرواية بفعل الخطيئة التي ارتكبها راشد الطاروف مع خادمته الفليبينيَّة. قال راشد في رسالته لجوزفين زوجته: «نعرف أو نعترف أنا وأنتِ أنَّ زواجنا وما ترتب عليه من فعل ارتكبناه في ليلتنا المجنونة على ذلك المركب، كان تصرُّفاً أرعن». بعد تلك الليلة دخلت أسرة الطاروف الكويتيَّة، بحسب الرواية، في مأزق بإصرار ابنها راشد في البداية على التمسُّك بابنه “عيسى”، الذي هو في بطن أمه، في وقتٍ رفضت الأسرة هذا العار مُطلقاً، رفضت أن ينتمي لها رجُلٌ من الفليبين وهي الأسرة الشهيرة بالكويت (البلاد التي اختارها الكاتب). غادرت الأم الكويت وبجوفها الابن “عسى – هوزيه” الذي أصبح مثل “ساق البامبو” فيما بعد.

(5)

عاد هوزيه (الفليبيني) أو عيسى (العربي) بعد سنوات طويلة عقب وفاة والده (راشد) بعد غزو الكويت، إلى أرض ميلاده (الكويت) ليواجه مصيراً مُؤلماً.. عاد إلى أسرة تُنكِرُه وأرضٍ تلفُظه بلا ماضٍ ولا ذكريات، ترك وراءه في الفليبين أرض ميندوزا جده، وعاد إلى أرض والده التي لا يعرفها، عاد تائهاً له (أكثر من وطن وأكثر من دِين وأكثر من اسم).

(6)

غاص السنعوسي مع الرَّاوي في تفاصيل الحكاية ليروي كيف توزَّع بين الجغرافيا والأمكنة دون أن يحس بالانتماء لأي شيء. حكى تفاصيل كيف استقبلته الأسرة المتمسِّكة بمكانتها الاجتماعيَّة غير معنيَّة بمصير ابن لا يخصها، وإن جرى دمها في عروقه، «أنتَ لا تنتمي لهذه الأرض ولا لأسرة، أنت لست أكثر من ساق – خيزران – بامبو». هنا دخلت الرواية إلى دهاليز عميقة لكشف كثير من جُذُور التناقُض التي تعيشها مجتمعاتنا العربيَّة.

(7)

اتخذ الكاتب حيلة رائعة وهي لعب دور مترجم الرواية، مستخدماً بطل القصة نفسه كراوٍ، الشيء الذي أضفى على العمل حيويَّة بالغة. إذ إنَّ صوت المترجم يكشف الطبائع المختلفة لبيئتين مختلفتين للتحليل والتوضيح فيما يمارس الراوي – البطل – سرد حكايته بيُسر. معرفة الكاتب العميقة بالبيئة العربيَّة وتعقيداتها وثقافتها لم تكن غريبة، ولكن سرد تلك التفاصيل والعادات وبناء الشخصيات التي تشكلت في بلاد بعيدة (الفليبين)، واستطاع بقدرة فائقة وصف الأمكنة بدقة ومعرفة عميقة. لم أستغرب حين علمتُ أنَّ السنعوسي أصرَّ على السَّفر إلى الفليبين والبقاء هناك فترة، للمُعايشة لدراسة تقاليد وأعراف ذلك المجتمع. هكذا لم تعُد الرواية فعلاً خيالاً محضاً، وهذه من أهم التحوُّلات التي حدثت بالرواية، إضافة إلى استعانته بالتاريخ كمادة أساسيَّة لنسج رواية وتقديم خدمة جليلة للتاريخ نفسه، دون أن يكون عُرضة للأخيلة المتوهَّمة.

(8)

من قبل كتبتُ عن رواية “ترمي بشَرَر” للقاص عبده خال، السعودي صاحب البوكر السابق، وقلتُ إنَّ الرواية الخليجيَّة الآن تنمو بشكلٍ مذهل بجانبنا، ونحن عنها غافلون، نطارد في أدبٍ غربي يكاد ينضب. الآن تكتظ نجوم سماء الخليج العربي بروائيين مبدعين (السنعوسي، عبده خال، رجاء عالم، بدريَّة البشر، دلال خليفة، وكلثم جبر من قطر، وغيرهم كثير). يستحق السنعوسي البوكر ويستحق الإشادة عليها. أدعوكم لقراءتها وأعدكم بمتعة كاملة وعلى مسئوليتي.

——-

#المقال أعلاه نُشر في كتاب (تجديف على شواطئ مزهرة)، صدر حديثاً لكاتب الزاوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى