السلام المجتمعي بعد الحرب

الصاوي يوسف

هناك قبائل تعتبر حاضنة للمليشيا المتمردة. ولكن حتى لو كان 90 في المئة من قبيلةٍ ما مؤيدا للجنجويد، فإن الدين والأخلاق والوطنية لا تسمح بأخذ العشرة في المائة الباقية بجريرة الأغلبية، ودمغ القبيلة كلها بالجرم. فالجرم جرم من أجرم فعلا، لا إخوته وأبناء عمه وأهله وقبيلته. ومن حسن الحظ أن هناك رجالاً وقفوا وقفة رجال، وهناك أصوات ارتفعت دون وجل، صادحة بكلمة الحق، في وجه العشيرة وفي وجه الإغراء والخوف معاً، فوقفوا مع الوطن لا مع الطمع ولا الفتنة، ولا مع البيع للدراهم الأجنبية، صمدوا كالطود الأشم وأعلنوا وقفتهم مع الوطن وقواته المسلحة وحكومته القومية الموحدة. ومن هؤلاء سيأتي السلام المجتمعي القادم، وبهم ستتم مشاركة جميع القبائل والأعراق والأجناس والمناطق، وبحكمتهم وحنكتهم سيتم تجاوز الشرخ العميق بين قبائلهم وبقية اهل القطر. وحتى قادة الإدارة الأهلية الذين باعوا ضمائرهم ومواقفهم ورجولتهم، بحفنة من الدراهم، وبشح نفسٍ مقزز، وجشعٍ رخيص متسفل، لوعود سيادة ابناء القبيلة وإقامة مملكة الأسرة والعشيرة على أرض السودان، وعلى حساب أرواح وأعراض وممتلكات أهل باقي السودان، فهؤلاء يسهل التعامل معهم، وأهلهم أقدر على محاسبة من أجرم منهم وباع شرفهم وتاجر بإسمهم، وعزله واستبداله وفضحه والتبشيع به. ويبقى في النهاية جوهر السودان، ذلك الرابط المتين والوجدان المشترك والإرث العريق، من التضامن واللحمة والنسيج المتين، الذي يربط كل أنحائه، وكل قبائله وأعراقه، وكل أرجائه لنا وطن نباهي به ونفتتن ونفتخر.

ينتظرنا إذن بعد الحرب، مؤتمر شامل جامع لكل أهل السودان، يتم فيه إعلان مبادئ الحساب والمحاسبة، والمراجعة والتنظيم. والمبدأ الأول هو أنه لا تجريم لقبيلة. لا تجريم جماعي، ولا إدانة إلا لفرد أو مؤسسة قام وقامت بالفعل المنكر. والمبدأ الثاني هو أنه لا محاسبة ولا عقوبة ولا عزل لقبيلة ولا خشم بيت، بل هي محاسبة فردية بناء على البينات والأدلة، لا الشبهات والاتهامات المرسلة. والمبدأ الثالث هو أن يتقدم ويقود من يقف مع الوطن، ومن يُعلي قيمة الشعب ووحدته وسيادته وعزته، فلا قيادة لمن باع، ومن كان عميلا ظاهرا لأجندات الأجانب او أطماع زعماء المليشيات ولوردات الحرب، ولمن ظل يعادي البلاد وجيشها، بالسلاح والمال والرجال وبالقلم والهتاف والتحشيد والتحريض.
والمبدأ الرابع هو تحريم حمل السلاح ضد الدولة مطلقاً، وإدانة أي تمرد مسلح مسبقاً، والاتفاق على مختلف الآليات الأخرى للاحتجاج وانتزاع الحقوق والضغط على الحكومات والمؤسسات. والمبدأ الخامس هو الاتفاق بوضوح على أن الحقوق تكتسب بالمواطنة، والمواطنة لها قوانين ونظم، ولا ينالها إلا مواطنٌ حقيقي مستحق، وهي ترتبط بالبلاد وحدودها وتعريف مواطنيها، ولا ترتبط بقبيلة او جنس. فإذا كنت سودانياٌ، فإن ابن عمك التشادي أو النيجري أو الليبي أو أياً كانت دولته، لا يملك الحق في دخول السودان، دعك عن نيل مواطنته وممارسة حقوقها فيه، إلا عبر الإجراءات القانونية المعروفة من تأشيرةٍ وإقامة. وبالتالي فإن كل من دخل السودان بغير حق هو دخيل متقحم يجب محاكمته ثم طرده لبلاده، ولا ينفع هنا كونه من هذه القبيلة أو تلك، فالمواطنة العصرية مواطنة دول قومية، وليست عصبية قبائلٍ وعشائر وأعراق.

إن الاختيار الشعبي المباشر، هو وحده الذي يمثل الشعب وينطق بلسان الشعب ويهتف بصوته الأصيل. وتقسيم البلاد الى دوائر جغرافية إنما هو تيسير للشعب لينتخب ممثليه والناطقين باسمه، ممن يعرفهم ويثق بهم في جواره المباشر، وممن لا يشك أحدٌ في أصالة تمثيلهم للشعب وأحقيتهم في الحديث باسمه والتخطيط باسمه والتنفيذ باسمه والتفاوض والتحاور باسمه والحكم باسمه. لابد من انتخاباتٍ أوليةٍ عاجلة، يتم بموجبها تصعيد مؤتمر سوداني جامع، يتشاور فيه ممثلي الشعب حول خطة إخراج البلاد من دمار الحرب والصراعات و”الثورات” والنزاعات بأنواعها، إلى مستقبلٍ يتم فيه التوافق على خطة النهضة والعمران، ونظام للحكم الفيدرالي والمحلي، وقواعد حاكمة للدستور الدائم للبلاد، تحدد الحقوق والواجبات، وتضبط السلطات والصلاحيات وتوجه السير على طريق الاستقرار والوفاق والتراضي المجتمعي الدائم.

Exit mobile version