رأي

السفر في زمن المحل

د. حسن سعيد المجمر

روى لي محدّثي بِلّة، حفيد “أم بلينة”، في زمنٍ كانت فيه الأيام خضراء، مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، في قريتنا الوادعة، أنهم عندما حلّ الجفاف بنواحيهم، نفقت الأغنام، وعجزت الإبل عن احتمال الجوع والعطش معًا، فضمرت بطونها، وبرزت عظام صدورها، ولم تعد تقوى على حمل الراكبين، دع عنك أن تبلغ بهم البئر البعيدة عن مضارب القبيلة، والتي غاض ماؤها أيضًا.

حينها، قرّر الكبار الرحيل نزولًا عبر وادي الملك إلى مدينة الدبة، ومنها ركبوا “برينسة” شمالًا دون خطة واضحة، فتبرّع سائقها بإرشادهم إلى منطقة “تنقسي الجزيرة”، المعروفة بكرم أهلها وكثرة بيوتها التي تتسع لأضعاف سكانها.

أناخت أسرة بِلّة رحالها هناك، وكانت تتكوّن من جدته “أم بلينة”، وخاليه “علي” و”جاد السيد”، وخالته “فاطمة”. ورغم احتفائهم بابن أختهم بِلّة، إلا أن مسحة الحزن التي كانت تكسو وجهه لم يمحها الدهر، وهو مقبل على حياة طويلة؛ فقد ماتت أمه بالنزيف في شهرها الثامن، ومات معها شقيق بِلّة المحتمل، أما أبوه، فقد هجر مضارب القبيلة بعد رحيل رفيقة دربه طلبًا للعمل في أم درمان، على وعدٍ بأن يعود ليأخذ ابنه معه، ولم يعد منذ خروجه، ولا عُرِف مصيره.

نسي بِلّة، إلى حين، تراجيديا والديه، وتفتّحت أساريره عندما انطلقت أفراح زواج خاله “علي”، وتصدّر المغنّون من قبيلتهم المشهد، وهو يصدح بلحن معهود عندهم:

الأربت حاوروهو وفز … يا هو خايف من حِكار الجوز
عصاية الخيزران أم فوص … بتضرب مانِعي ما بتنقص

ثم يحمحم بصوتٍ شجيّ يخرج من حنجرته، ونردّد معهم بفرح وسرور…

لكن الدنيا لم تمهل بِلّة إلا برهة، حتى نعى الناعي خاله “علي” وعروسه، اللذين قضيا غرقًا في رمشة عين، حين انقلبت بهما “الفلوكة” قبالة مشرع “نور الدائم” المطل على “فريق أبو عجاج” قبلي “تنقسي الجزيرة”. حرص أهل البلد على حضور “الفُرَاش”، وظلّ بيت العزاء عامرًا لأيام، بالمعزّين من أقربائهم، الذين توزّعوا على البيوت الفارغة بسبب هجرة أهلها إلى ود مدني وسنار وبورتسودان.

هجرت هذه الأسرة كاملةً البلدة، وخلّفت وراءها ذكرى ترنّ في آذان جيلنا، الذي عبقت أيامه بتلك الملاحم الإنسانية، التي أبدعها كبار البلدة في استقبال ضيوفهم من ضحايا الجفاف.

ومثلما هجر أولئك ديارهم إلى مناطق أخرى، تسرب أترابنا إلى العاصمة وحواضر الصعيد طلبًا للالتحاق بالمدارس الثانوية، إذ لم تعد مدارس الريف في المديرية الشمالية مقصدًا لمن يرغب في دخول الجامعة.

كان السفر شاقًا، بل قطعة من جهنم في كل الفصول، وأشدها. فسفر الشتاء مؤلم، يكاد يوقف القلب ويجفف الأنوف والآذان، أما سفر الصيف، فهو كمن يطأ الجمر بقدمين حافيتين. وسفر الخريف شأنه شأن آخر أيامٍ يقضيها السائق في البحث عن دروب محاذية للجبال، ليتقي الوحل وما هو بمتقيه. وفي كل تلك الأحوال، يئنّ الباص بين مجرى رملي موحل، وحجارة ذات سنان، وأودية تسيل، لا يعلو فيها صوت إلا نداء المساعدين أو بكاء الأطفال.

ورغم هذه الصعوبات الجسيمة، كنا نرى أن حياتنا أفضل قليلًا من أترابنا من أمثال بِلّة؛ فأولئك كانوا يسابقون الريح خلف الباصات واللواري السفرية بسيقان نحيلة وأقدام حافية، في ذلك الصيف الغائظ، غير آبهين بحرارة رمال “قوز أب ضلوع” أو الأشواك المدفونة تحت “فرناغة وادي جبرة” شمال أم درمان. وكانت غاية أمانيهم الآنية آنذاك الحصول على لقمة من “الخميرية” أو “الصنوعية” – قراصة التمر – كما يحلو للشماليين تسميتها. ولم يكن يدور في خلدهم التفكير في أكثر من ذلك، سوى أماني وحلم بقدوم الخريف، وما تزفه بوادره من “همبريب” يكافح السموم، وينقّي صدورهم للجري واللهو ورعي الأغنام وحواشي الإبل، حيث تخضر أغصان أشجار السَلم، وينبت قشّ الخلاء.

هؤلاء الصبية الذين يولدون في بيئة قاحلة، يتساقط صفق أشجارها بعد الشتاء، فتحمله رياح “أم شير” بعيدًا، ومعها ما تبقّى من حشائش تكسّرت سيقانها الهشّة. بعض تلك الحشائش تحبسه نتوءات الرمال، التي تشكّل لوحة أمواج تبرق، كأنها بحر سراب، عندما تتعامد عليه خيوط الشمس.

ذو الحظ العظيم من أولئك الأطفال، من تصادف بواكير صباه أوديةً ورحال أهله وهي “درت”، وسيئ الحظ منهم من وُلد وقويت سوقه، وقضى صباه والبلاد وأوديتها محل – لا وادٍ سال، ولا ضرع درّ، ولا بَرم. وفي كل الأحوال، كانت حياتهم بؤسًا، لكن آباءهم لا يعرفون اليأس.

الأجداد في هذه الصحراء المترامية، يروون لأحفادهم الصغار كيف كان الخريف في سنوات مضت شديدًا، يكاد سَنا برقه يخطف الأبصار، وقوة رعده تهز الجبال الراسيات، فتنهمر سُحبه لتغمر الفرقان والأودية. يقضون جلّ أوقاتهم ينقلون “شملاتهم” من “تبة” إلى أخرى، وفي الليل لا يهجعون، بل يسهرون يُقتّلون هوام الأرض التي أخرجتها السيول الجارفة من سُباتها، لتبحث مثلهم عن أمان من الغرق، فلا تأبه أن تلدغ الصغار، دون ذنب جنوه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى