يمر الاقتصاد السوداني حالياً بأزمة حقيقية في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية من جهة وتبعات الحرب من جهة أخرى، والتي أدت مجتمعة إلى اختلال كبير وغير مسبوق في مؤشرات الاقتصاد الكلي مثل معدلات التضخم وأسعار الفائدة وسعر الصرف وميزان المدفوعات.
وفي مقدمة هذه المؤشرات يأتي انهيار حاد ومفاجئ في قيمة العملة المحلية مقابل الدولار الأمريكي، حيث وصل سعر الدولار إلى حوالي ١٥٥٠ جنيها في بداية عام 2024 محققاً أعلى مستوياته على الإطلاق مقارنة بالجنيه السوداني، مما أدى إلى زيادة الطلب والإقبال على شراء الدولار كملاذ آمن في مواجهة تراجع الثقة في الاقتصاد المحلي وتدهور قيمة عملته.
وفيما يلي أبرز الآثار السلبية الناجمة عن ارتفاع سعر صرف الدولار وكيفية مواجهتها:
أولاً: ارتفاع التضخم من أبرز تداعيات ارتفاع سعر الدولار هو ارتفاع معدلات التضخم بشكل كبير جداً، حيث تجاوزت نسبته 20%، وهي أعلى نسبة. ويرجع ذلك إلى ارتفاع تكلفة الواردات ومدخلات الإنتاج المستوردة من الخامات وقطع الغيار والآلات وتكلفه الحرب، مما انعكس مباشرة على أسعار السلع والخدمات المحلية.
ومن أهم الحلول المقترحة لاحتواء التضخم:
رفع أسعار الفائدة لتقليص السيولة النقدية والحد من الاستهلاك والاستثمارات غير الضرورية مما يساهم في تخفيض الطلب الكلي.
دعم السلع الأساسية مثل الغذاء والوقود لخفض أسعارها مباشرة على المستهلكين ذوي الدخل المحدود.
مراجعة الرسوم الجمركية وضرائب المبيعات لتقليل تكلفة الواردات.
تشجيع الاستثمارات الهادفة لزيادة الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على السلع المستوردة.
ثانياً: تدهور القدرة الشرائية ترتب على ارتفاع التضخم تآكل كبير في دخول ومدخرات الأفراد، مما أدى إلى تدهور حاد في مستويات المعيشة وزيادة معدلات الفقر. وقد تضررت الطبقة متوسطة الدخل بشكل خاص كون مداخيلها ثابتة وغير قادرة على مواكبة الزيادة في تكاليف المعيشة.
ومن الحلول الممكنة:
رفع الحد الأدنى للأجور ورواتب العاملين في الحكومة والقطاع العام للحفاظ على القدرة الشرائية.
دعم برامج الضمان الاجتماعي والمعونات لأشد الفئات فقراً.
إتاحة تسهيلات ائتمانية للمشروعات المتناهية الصغر والصغيرة ومتناهية الصغر لدعم الطبقة متوسطة الدخل.
ثالثاً: نقص السلع والخدمات شهدت الأسواق السودانية نقصاً حاداً في العديد من السلع الأساسية نتيجة صعوبة استيرادها بسبب ضعف العملة المحلية مقابل الدولار. وتكلفة الحرب كما أدى ذلك إلى تعثر مشروعات تنموية وبنية تحتية كبرى بسبب توقف استيراد مستلزمات الإنشاءات وقطع الغيار من الخارج. ويمكن مواجهة ذلك من خلال:
وضع آليات لضمان استيراد السلع الأساسية بأسعار مدعومة أو ميسرة لفترات الشح وارتفاع الأسعار العالمية.
التوسع في الإنتاج الزراعي والصناعي المحلي ودعم المنتجين لسد الفجوة مع الواردات.
مراجعة أولويات المشروعات القومية للتركيز على ذات الجدوى الاقتصادية العالية في المرحلة الراهنة.
رابعاً: هروب رؤوس الأموال وتدفقات الاستثمار الأجنبي شهد الاقتصاد السوداني خروج تدفقات هائلة من رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية خارج البلاد بفعل ضعف ثقة المستثمرين في استقرار الاقتصاد ونتيجة حتميه للحرب، مما أدى لنضوب مصادر تمويل المشروعات وتعطل خطط التنمية.
ويمكن معالجة ذلك من خلال:
سن قوانين جديدة لتحفيز الاستثمار وضمانات لتحويل الأرباح ورؤوس الأموال للخارج.
تقديم حوافز ضريبية وجمركية لجذب استثمارات في الصناعات التصديرية والبديلة عن الواردات.
إصدار سندات دولارية ذات عوائد عالية لاستقطاب المدخرات المحلية بالدولار بدلاً من الاحتفاظ بها خارج البلاد.
خامساً: مخاطر أزمة مديونية ارتفعت تكلفة خدمة الدين الخارجي المقوم بالدولار بشكل كبير مع ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، مما يهدد بأزمة ديون حقيقية.
ومن الحلول الممكنة:
إعادة جدولة الديون مع الدائنين الأجانب لتأجيل أقساطها لحين استقرار الاقتصاد.
الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للحصول على قروض ميسرة لسد العجز المالي دون اللجوء للاقتراض الخارجي.
تنويع مصادر التمويل الخارجي وزيادة الاقتراض بالعملات الأخرى غير الدولار.
سادساً: برنامج الإصلاح الاقتصادي أطلقت الحكومة برنامج إصلاح اقتصادي طموح بالتعاون مع صندوق النقد الدولي يستهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي على المديين المتوسط والطويل، غير أن آثاره الإيجابية مازالت غائبة على أرض الواقع حتى الآن.
ولنجاح هذا البرنامج ينبغي:
الالتزام التام بتنفيذ جميع بنود ومعايير الأداء المتفق عليها مع صندوق النقد دون مماطلة.
اتخاذ قرارات جريئة بخفض الدعم ورفع الضرائب وتقليص فاتورة الأجور في موازنة الدولة.
مكافحة الفساد المالي والإداري بحزم لترشيد الإنفاق العام وزيادة الإيرادات.
تهيئة المناخ لتشجيع الاستثمارات المحلية والأجنبية في الاقتصاد الحقيقي.
خلاصةً، تواجه السودان أزمة اقتصادية خانقة فرضتها المتغيرات الإقليمية والعالمية بالإضافة إلى العيوب الهيكلية في اقتصادها المحلي والحرب. وقد تفاقمت هذه الأزمة بشكل حاد مع انهيار قيمة العملة المحلية أمام الدولار، مما أدى لارتفاع غير مسبوق في معدلات التضخم وتدني مستويات المعيشة وتعثر النشاط الاقتصادي.
وتتطلب مواجهة هذه التحديات تضافر الجهود على المستويين الحكومي والشعبي، بالإضافة إلى دعم المجتمع الدولي. كما ينبغي تبني سياسات اقتصادية تصحيحية جريئة تستهدف استعادة الاستقرار الكلي والتوازنات الداخلية والخارجية للاقتصاد، وذلك من خلال برنامج إصلاحي شامل بالتنسيق مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية.
وفي الوقت ذاته، لا بد من وضع سياسات وبرامج حماية اجتماعية فعالة للحد من تداعيات هذه الإصلاحات على الطبقات الأكثر فقراً وهشاشة، حتى لا تتحمل الفئات الأضعف أعباء تصحيح مسار الاقتصاد بمفردها.