التيجاني المشرف: أقدار التدين وبوتقة أم درمان الإجتماعية

السفير خالد موسى
المرحوم الدكتور التيجاني مشرف كان نسيج وحده، لم يكن استنساخا لما كان سائدا لصورة المتدين الذى صنعه الخصوم بالتنميط القسري، حيث الإزار المسدول واللحية المطلقة و المسكنة فى طلب الاصلاح الاجتماعى والسياسي و ما يسمى بالفكر الرجعى. بل كان مثالا ونموذجا للشخص الحركى الذى يعرف اصول دينه وانماط تدينه وتحديات عصره، ليبتدع ما يلائمها من وسائل وأدوات. كان إبنا اصيلا لأم درمان و نتاجا سائغا لبوتقتها وتاريخها الإجتماعى، شب من الحواري والدافوري غارسا رايته لبعث قيم الدين حية تسعى بين الناس، جمع بين اصالة القيم وتقاليد المجتمع السوداني وانماط الحداثة. كان يمكن ان ينحاز الى إنتماءات و تقاليد أهله حيث الولاءات التقليدية التى تميل للأنصار، لكنه اختار طريق الجراحات والنحت على الصخر بالاظافر. لم يكن مترددا هيابا بل كان مقتحما مقبلا على ما يراه حقا. كان عند النزال مع الخصوم اسدا عند الملمات الكبيرة، حتى همهم البعض ان هذا تخطي لأقدار الحكمة والمساومات العصية. كان نموذجه الحركي شيخ عبيد و محمد عثمان محجوب رحمهما الله، وكلاهما يكتنز عزة المسلم وصفاء قلبه وقوته وذكائه وفطنته مع تفقه عميق فى الدين. كان يرى فى الشيخ الترابى ذلك النموذج الملهم الذي غير أقدار السودان التاريخية وقدح فى ضمير العالم المسلم إلهامات التغيير وفقه التدين بالسياسة وبناء المؤسسات إستكمالا لوظيفة التربية وبناء العصبة المؤمنة التى تقود التغيير. كان ممن يألفون ويؤلفون متحدثا لبقا، و مفوها، صاحب عقل يقظ وضمير متيقظ، مدركا لتحديات عصره، بارعا في التكتيك السياسي، ملما بالتاريخ الإجتماعى لأهل السودان، كان فكها له فى كل موقف طرفة وملحة وقصة. كان متفوقا على أنداده فى الفكر السياسي وتحديات فقه المرحلة، منحته أم درمان ذلك الحس الإبداعى المكنون و الذكاء الإجتماعى الذي يذيب الحواجز، ويفتح القلوب و الوجدان. لذا كان داعية تستجيب له الحشود، لسمحاته وفطنته وحسن مخاطبته للعقول والقلوب. كان مدخرا للقيادة السياسية مع أبناء جيله، بما يحوزه من ملكات وخبرة و بعد نظر، لكن أقدار الإنتقال والهجرة والإغتراب، و انقسامات الداخل حرمت السودان من قيادى كان سيضيف الكثير للعمل السياسي على المستوي القومى.
عاصرت المرحوم قياديا في العمل الطلابي، ومدربا لجيل الشباب يصوغ لهم الرؤي و يصقل الملكات ويسدد النظر فكان ملهما. و مشيت معه بعض الخطو في فلادلفيا حيث بدأ تجربة جديدة كانت أقل من طموحه وملكاته لأن السودان كان يتخلل مسام فكره و لفح وجدانه وقلقه النبيل. كان يترك أثرا فى اي مكان حل فيه في أفريقيا و السعودية وأمريكا. وكان مهما شرقت او غربت بوصلته الجغرافية الا انها كانت مصوبة الى موقع حنينه الدائم لتلك الوجوه التي ألفها حيث الاخاء الصادق، والوفاء المتدفق و الهدف النبيل لتوحيد أهل القبلة. أشهد انه عندما تباعدت المواقف سعى لأهل الحل والعقد ينصحهم و يقيم عليهم الحجة و يرشدهم لجادة الطريق.. و لأنه كان قائدا بطبعه، وإجتماعيا بميلاده ومقبلا بفكره ومواقفه فقد أضطربت بعض صلاته مع قليل من اخوته وانداده، ولم يختلف معهم على إرث مادى ولكن على تراث مضيء من الفكر والفقه والموقف من التاريخ. رغم ثراء تجربته وامتدادها لكنه لم يكن من اهل المغانم بل من اهل المغارم وقد دفع ثمنها ارتحالا وتنقلا في مراغم الأرض، وحبا مقيما وسعة في قلوب اصداقائه واخوانه واخواته وزملائه واهله ومحبيه.



