د. الخير عمر أحمد سليمان
باحث متخصص في العلاقات الدولية – واشنطن
يمثّل البحر الأحمر عمقًا إستراتيجيًا مهمًا للبلدان المطلة عليه، كما يستمدّ أهميته من موقعه الجغرافي الذي وفر للقوى الإقليمية والدولية إمكانية الوصول إلى المحيط الهندي، والبحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن أهميته في ثلاث دوائر أمنية: الأمن القومي العربي، الأمن الأفريقي، والأمن العالمي.
ومن هنا، يمثّل بسط السلام والاستقرار في هذه المنطقة أمرًا حيويًا لرفاهية وتنمية شعوبها، كما أن أي تهديد تتعرض له يؤثر بشكل مباشر على التجارة الدولية؛ إذ يمر عبر البحر الأحمر حوالي 12% من التجارة العالمية، و20% من إجمالي شحن الحاويات سنويًا، فعدم الاستقرار في هذا الممر الحيوي يشكل تهديدًا للأمن والسلم الدوليين. ويتطلب تحقيق الاستقرار نوعاً من الإلتزام طويل الأمد من جميع الأطراف صاحبة المصلحة لمعالجة الأسباب الجذرية التي جعلت من المنطقة مسرحًا للتنافس الجيوسياسي.
ويعد التركيز على الأمن والاستقرار في منطقة البحر الأحمر، مدخلًا مهمًا لتعزيز الحريات على المستويين: الاقتصادي والاجتماعي، وبالتالي تقوية فرص مواجهة التحديات الناتجة عن التنافس الجيوسياسي. ولعل ذلك يتسق مع ما ذهب إليه أمارتيا سين في كتابه: “التنمية حرية” (Amartya Sen, “Development as Freedom”)، فالفكرة الرئيسية التي يدور حولها الكتاب هي أنّ التنمية لا ينبغي أن ينظر إليها باعتبارها نمواً اقتصادياً فحسب، بل توسيعًا للحريات الإنسانية، التي تعد بمثابة حجر الزاوية الذي يمكن البناء عليه لدعم التقدم والرفاه الاجتماعي لشعوب المنطقة، في ظل بيئة تتسم بدرجة عالية من التعقيد السياسي والأمني بسبب إرتباطها العضوي بمنطقة أكثر سخونة وحساسية في إطار التنافس الجيوسياسي الإقليمي والدولي وهي منطقة القرن الإفريقي.
خصائص مشتركة
فالعلاقة بين منطقتي البحر الأحمر والقرن الإفريقي تتسم بنوع من الاعتمادية المتبادلة، مما يعني أن ما يحدث على الضفة الشرقية من البحر الأحمر (الخليج العربي) يؤثر على ما يحدث في الضفة الغربية منه (القرن الإفريقي). وهذا الارتباط يأخذ شكله الاستراتيجي من خلال أربع زوايا هي:
الممرات البحرية الحاكمة: يُعد مضيق باب المندب، الذي يقع بين اليمن في شبه الجزيرة العربية وجيبوتي وإريتريا في القرن الأفريقي، منطقة وصل بحري غاية في الأهمية، إذ أنه يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي، مما يجعله ممرًا حيويًا للتجارة العالمية، خاصة لشحنات النفط من الخليج العربي.
الأهمية الاقتصادية: كما سبقت الإشارة، يُعدّ البحر الأحمر طريقًا تجاريًا مهمًا بالنسبة للسلع وموارد الطاقة المتدفقة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا. وفي هذا السياق، يُعتبر القرن الأفريقي بوابة لهذه الأسواق، حيث تلعب موانئ جيبوتي وبربرة في الصومال دورًا مهمًا في تسهيل التجارة. إضافة إلى ذلك، تتمتع المنطقتان بموارد طبيعية كبيرة غير مستغلة، مثل: النفط والغاز والمعادن، مما يفتح الباب للتنافس الجيوسياسي وظهور بعض التحديات الأمنية.
المخاوف الأمنية: تشترك منطقتا البحر الأحمر والقرن الأفريقي في تحديات أمنية بسبب القرصنة، التي تشكل تهديدًا للملاحة البحرية. يُعتبر خليج عدن من النقاط التي تشهد نشاطًا متزايدًا للقرصنة والجريمة البحرية، مما يهدد الشحن والتجارة. إلى جانب ذلك، فإن الإرهاب والتطرف الذي تمثله حركة الشباب في الصومال وغيرها من المنظمات المتطرفة، بالإضافة إلى التغير المناخي الذي يفاقم الصراعات ويخلق مخاطر أمنية تفوق قدرة دول المنطقة على مواجهتها، كل ذلك يفتح الباب للتدخلات الخارجية، وزيادة حدة التنافس الجيوسياسي.
دواعي التنافس
ساهمت الأهمية الإستراتيجية للبحر الأحمر في جذب اهتمام القوى الإقليمية والدولية للسعي لبسط النفوذ والسيطرة. ففي حين تسعى بعض الأطراف الإقليمية إلى حماية مصالحها من خلال إقامة التحالفات والسعي للتأثير على الأوضاع الداخلية لبعض دول المنطقة، وخاصة تلك المطلة على الضفة الغربية للبحر الأحمر، فإن قوى دولية من خارج الإقليم، مثل: الولايات المتحدة والصين وروسيا، تسعى بدورها لتعزيز وجودها العسكري لأسباب مختلفة.
تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على هيمنتها العالمية، وضمان حرية الملاحة، بالإضافة إلى مواجهة نفوذ القوى المنافسة. أمّا الصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، فتسعى إلى توسيع نفوذِها الاقتصادي عبر الاستثمار في البنية التحتية للموانئ وإنشاء الطرق التجارية، وقد أسست أول قاعدة عسكرية لها خارج الصين في جيبوتي في أغسطس/آب 2017.
في المقابل، تسعى روسيا إلى تأكيد عودتها كقوة كبرى، ساعية لإيجاد موطئ قدم لها في المياه الدافئة، وخاصة في ميناء بورتسودان في السودان. هذا المشهد الجيوسياسي يدفع إلى طرح أسئلة حول الجدوى الأمنية والإستراتيجية من عسكرة مياه البحر الأحمر، ومدى نجاح المقاربات الأمنية والتحالفات القُطرية في تحقيق مصالح الأطراف المتنافسة، وما هي الانعكاسات الأمنية والإستراتيجية لهذا التنافس على الأمن الإقليمي والدولي.
خطأ المقاربات
أسهمت المقاربات الأمنية الخاطئة التي اعتمدتها القوى المتنافسة في زيادة هشاشة بعض دول الإقليم، مما أدّى إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، الذي بدوره أسهم في خلق تحديات سياسية واقتصادية وأمنية أثرت سلبًا على أمن البحر الأحمر، ومنطقة القرن الأفريقي. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك:
اليمن: قادت الحرب في اليمن منذ عام 2015 بعض الأطراف الإقليمية إلى عسكرة العديد من الموانئ على الشواطئ الأفريقية، خاصة تلك الموجودة على الضفة الغربية للبحر الأحمر. نتج عن ذلك زيادة العبء الأمني وتوسيع دائرة التصادمات العسكرية، مما هدد الملاحة في باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، والذي يمر عبره معظم صادرات النفط والغاز الطبيعي من الخليج العربي. بلغ عدد السفن التي تمر من خلاله أكثر من 21 ألف سفينة سنويًا، بما يعادل 57 سفينة يوميًا. أدت هذه المقاربات الأمنية إلى زيادة حدة التنافس الجيوسياسي وتفكيك الدولة اليمنية، مما شكل تهديدًا للأمن والاستقرار في المنطقة.
الصومال: تأثرت الصومال بشكل كبير بالتنافس الجيوسياسيّ، حيث ركزت القوى الإقليمية والدولية على التعامل مع الملف الصومالي كمعضلة أمنية، مما أدى إلى تبنّي مقاربات أمنية خاطئة أهملت جذور المشكلة. ونتيجة لذلك، أصبحت الصومال الدولة الأكثر هشاشة في القرن الأفريقي، مما شكّل تهديدًا لأمن البحر الأحمر والمنطقة بأسرها.
السودان: خلق التغيير السياسي الذي شهدته السودان في عام 2019 حالة من الهشاشة الأمنية، مما أدى إلى اندلاع حرب في أبريل/نيسان 2023. ونتج عن قصور المقاربات الأمنية المعتمدة من بعض دول الإقليم، مدعومة بالقوى الخارجية، تفكيك الدولة السودانية على نحو يشبه ما حدث في الصومال واليمن. ويؤثر انهيار الدولة في السودان بشكل خطير على أمن البحر الأحمر، حيث يمتدّ ساحل السودان على البحر الأحمر بطول حوالي 670 كيلومترًا.
رؤية استشرافية
الموقع الإستراتيجي للمنطقة، مع ممراتها البحرية الحيوية وقربها من الأسواق العالمية، يجعلها جاذبة للتجارة والاستثمار. ويمكن تطوير آليات تعزز الاستقرار وتخلق بيئة مناسبة للتنمية الاقتصادية. لكن عدم الاستقرار السياسي، والصراعات الداخلية، والنزاعات الحدودية، تشكل عقبات رئيسية في طريق تحويل منطقة البحر الأحمر إلى منطقة جذب إستراتيجي قائمة على التعاون بدلًا من الصراع. لتحقيق ذلك، يمكن النظر إلى المحددين التاليَين:
خلق آليات تعاون إقليمي: من الضروري تطوير حوار مؤسسي بنّاء يضع أسسًا لشراكة إستراتيجية بين دول البحر الأحمر بضفتَيه: الشرقية والغربية. وفي هذا السياق، تمثل المبادرة السعودية حول “منتدى البحر الأحمر” خطوة مهمة يمكن البناء عليها، بشرط أن تنطلق من منظور المساواة بين الدول المشاركة، وتُعبّر عن التنوع الموجود في المنطقة.
إعادة التفكير في مفهوم الأمن: يجب أن تدرك دول المنطقة أن الأمن لا يعني عسكرة البحر الأحمر، أو الاعتماد على قوات خارجية لتحقيق أهداف جيوسياسية، بل ينبغي أن يكون البحث عن جذور المشكلات والعمل على معالجتها هو الأساس لضمان حماية المصالح المشتركة لدول الإقليم على المدى الطويل.