عبداللطيف البوني
لا أدعي زمالة معه إذ لم يحدث أن تزاملنا في مؤسسة تعليمية أو مهنية…. لا أقول أن لي صداقة معه.. إذ ليس بيننا تواصل راتب… ولم نتبادل أرقام التلفونات في يوم… ولكنني أجزم بأن هناك محبة قوية بيننا.. كنت أقرأ كل ما يصدر عنه من كتابات بنهم شديد… وهو الآخر كان يقرأ لي… لقاءتنا كانت متباعدة وكلها في مناسبات ثقافية وأكاديمية واجتماعية…. ففي هذة المرات التي نلتقي تظهر تلك المحبة في أبهى حللها … كنت استجوبه في بعض ما صدر عنه من أفكار وآراء ومواقف… كنا نضحك كثيراً فأنت في حضرته لا تفرق بين الجد والهزل… فالبسمة لاتفارق شفتيه وهو ينطق بأقسى الكلمات.. قلت له ياقور (هناك اتفاق بيننا بابعاد الالقاب العلمية عندما نتلاقى وكان ذلك بمبادرة منه) أنت مصاب بما يسمى تشوهات مهنة (Job Distortion) فأصبحت حياتك كلها عبارة عن مسرحية… وصفني في أكثر مقال بصفة المفكر السوداني فقلت له دي واسعة شديد يا قور وللا أنا حا أضطر أصفك بالفيلسوف السوداني قور ونقعد نوزع في الالقاب المجانية على بعض.. ياخي انت قلت ما عاوز حتى الالقاب العلمية…. فقال ألم تسمع بنظرية موت المؤلف؟ فأنا عندما أقرأ أي نص لا أتذكر كاتبه وأحكم على النص من خلال محتوياته… وأصنف كاتبه من خلال كلمات النص فقط… لذلك لا يحق لك ولا لغيرك أن يجادلني فيما يصدر عني بناء على فهمي للنص…
قابلني ذات مرة فكان كمن يبحث عني فقلت له خير ياقور عاوز تقول شنو؟ قال لي شايفك بديت تظهر في التلفزيون كمقدم برنامج… فمن فضلك أبعد من التلفزيون دا.. فقلت لماذا؟ ماهو عمل صحفي هو الآخر.. فرد أبداً أنت اشتهرت ككاتب صحفي… وأصبحت واسع الانتشار (يومها كان عمود حاطب ليل له مقرؤية عالية كما أوضحت الانترنت) فالظهور في الشاشة يزيل عنك الغموض الذي أضفى سحراً على كتاباتك… يعني بصريح العبارة بفضحك.. فالكتابة ستر والتلفاز كاشف… فقلت له كلامك مدهش ولكن لن أفكر في مدى صدقيته… لأنني عزمت على خوض التجربة… فضحك وقال على كيفك المكتولة ما بتسمع الصايحة..
أبو القاسم قور من طراز المثقفين الموسوعيين فهو واسع الاطلاع (سوسة كتب) متنوع المعارف… حتى كسبه الأكاديمي كان متنوعاً فجمع بين المسرح والنقد الدرامي.. والقانون والفلسفة… بالإضافة للموسوعية كان مثقفاً عضوياً… إذ تجده يعافر بعلمه الغزير على كافة المستويات المحلية والمناطقية والقومية.. كان له اهتمام خاصة بالثقافة الأفريقية وموقع السودان منها.. كان منتمياً لجماعة الرابطة الأفريقية (Pan Africanism)
…كان كثير الأسفار لحضور المنتديات العالمية ومن كل سفرية كان يخرج بصديق من العيار الثقيل… ويعود متابطاً آخر الإصدارات العالمية… قلت له مداعباً ياقور ياخي انت بتجيب قروش السفر دي من وين؟ فقال لي إنها الاحترافية التي تمكن من معرفة المؤسسات الدولية وكيفية التواصل معها… فأنا زي ما إنت عارف ما قاعد اطلع بقروش من الأسفار دي عشان كده ما ببذل فيها قروش.. قلت له السفر خلاك مثقف عالمي.. فقال لي ماهو إنت من المحلية بتاعتك بتناقش في نهاية التاريخ وفوكويوما… وصراع الحضارات وهنتنغتون. الحكاية ليست في الأسفار ولا في القعود بل هي الاحترافية والتجويد… واستند على مثل بقاري نسيته الآن… كان أحب الألقاب إلى نفسه “البقاري الأنيق” فقور لا يظهر إلا في كامل زيه الافرنجي أو القومي.. في زيه الافرنجي كان لا يلبس (الفل سوت) فالبنطلون لازم يكون مختلف عن لون البدلة وكذا الكرفتة…
كان كثير الكتابة عن المسرح العالمي… وكان يستعرض آخر النظريات النقدية بطريقة سلسلة وميسرة، كان لا يتقعر في الكتابة… أعلن عن توقفه عن ذلك الضرب من الكتابة بمقال شهير… أسماه نهاية المسرح… قال فيه إن الواقع أصبح يتفوق على أي خيال.. وبعده اتجه لثقافة السلام وأخلص لها… اطلاعاً وكتابة وعملاً تنفيذياً لدرجة أنه أنشأ معهداً خاصا به لدراسات السلام في سابقة تعتبر الأولى من نوعها… ومن خلال معهده هذا قام بالكثير من المصالحات المجتمعية…
عندما علمت أنه موجود في القاهرة قررت الاتصال به فاتصلت بصديقنا وزميله استاذنا البروفسور سعد يوسف… فأعطاني رقمه في الواتساب… فاتصلت به وطلبت منه موقع مركزه لزيارته… كانت سعادته بالاتصال لا توصف… قال إنه طريح الفراش (عشان كده تحول مبادرتك إلى زيارة مريض عشان ينيبك فيها ثواب) وبالفعل زرته في اليوم التالي لتلك المحادثة في الدقي… دخلت عليه بعد صلاة العصر وصليت معه المغرب الذي صلاه جالساً على الكرسي… وعند أذان العشاء وأنا أهم بالخروج قال لي ياخي ما تصلي بي العشاء برضو وعشان يمكن أن يكون العشا الأخير… فقلت له ياخي أنا مفكر أعيد صلاة المغرب الكانت معاك تقول صلاة العشا كمان وانفجرنا ضاحكين…
اللحظات التي أمضيتها معه مرت سِراعاً وطوفنا فيها على عدة مواضيع.. وكان سعيدا بوصول نسخة من كتابه الأخير (ثقافة السلام والمسرح التنموي) وكشف لي عن المشاريع التي تتعلق بالسلام والتي يود القيام بها في سودان ما بعد الحرب… تحدثنا كثيراُ في حالة البلد الدامعة .. قلت له بختك يا قور أهلك الدعامة عدمونا الحبة وإنت لا عندك عربية عشان يشيلوها ولا بيت عشان يخربوه… فرد لكنهم ضروني في أعز ما أملك فإن قلبي يتمزق الآن حسرة على الدار الأصبحت خلا ، إن كل رجال المسيرية قد ماتوا فمن أسرة قور رحل عدد لايحصى من الشباب.. وقال لي أن زوجته فقدت أربعة من أشقائها… عن مرضه قال إنه يتردد على مركز للقلب وكان موعوداً في اليوم التالي بأشعة مقطعية.. عند الخروج أصر على أن يوصلني السلم… ودعته على أمل اللقاء قريباً فما كنت أدري أن هذة أول وآخر جلسة خاصة لي معه، فكل لقاءتنا السابقة كانت في مناسبات عامة..
بعد يومين من تلك الزيارة اتصلت به لكي أسأله عن نتيجة المقابلة الطبية… فقال لي أن الصورة كشفت أن هناك خللا في الصمام… فسألته عن الخطوة التالية ….قال إن هناك جلسة استشارية لكي يصدر القرار الطبي منها.. ياخي الناس بيتعاملوا مع الإنسان تعامل آلي .. يحضر أخصائي الأوردة.. وأخصائي الشرايين… وأخصائي الأشعة… وأخصائي الشنو والشنو .. ويضعوا الفحوصات أمامهم ثم يصدروا قرارهم … وما يفضل ليهم إلا يصوتوا.. فقلت طيب ما كويس أنت دايرهم يعملوا شنو ياقور ؟ فقال لي مفروض المريض يكون موجود معهم.. لكن معقولة يا قور؟ ليه ما معقولة طالما أن القرار في النهاية خاضع للأخذ والرد البشري.. فقلت له مدد مدد يا شيخ قور.. وضحكنا وختم المحادثة بالقول لازم نتلاقى قبال الشغلانة ما تستوي…
في اليوم التالي لتلك المحادثة صعقني خبر رحيله… لكنه قور الذي كان سهلاً في كل حياته وسهلا حتى في مماته.. وهكذا ترحل النوارس من بلادنا خلسة… ترحل ومعها العلم والثقافة والأدب والبسمة الدائمة…. ترحل بعد أن هد قلبها الكبير الأسى والحزن لحالة البلاد والعباد…. ترحل وفي تلافيف دماغها الكثير من المشاريع العلمية والثقافية.. رحمك الله يا بروفسور أبو القاسم قور وأسكنك فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين وجعل البركة في ذريتك.. فقد كنت نسمة وبسمة وفكرة في حياتنا… ولمثلك يكون الدمع هطال…
