رأي

البرهان في تركيا.. ذاكرة التاريخ ومصالح المستقبل.

رشان اوشي

منذ سنوات، لا تتعامل الجمهورية التركية مع السودان بوصفه مجرد ملف في روزنامة السياسة الخارجية، بل كفضاء تاريخي وثقافي تشكلت فيه روابط عميقة سبقت الدولة الوطنية نفسها. وآثار تلك العلاقة ما زالت ماثلة في سواكن وغيرها من المدن السودانية، لا باعتبارها شواهد تاريخية فحسب، بل كذاكرة سياسية توضح بأن العلاقات بين الدول تبنى أحيانا على المعاني قبل المصالح.

اقتصادياً، ظل الخيط التركي السوداني ممتداً حتى بعد عام 2019، رغم محاولات حثيثة من النظام القائم آنذاك لقطع “شعرة معاوية” مع أنقرة، في لحظة استقطاب داخلي حاد. ومع ذلك، حافظت تركيا على حياد دبلوماسي محسوب، التزمت فيه بمبدأ عدم الانخراط في الصراع الداخلي، وفق منهج السياسة الواقعية التي توازن بين المصالح واحترام السيادة.

في هذا السياق، تأتي زيارة رئيس مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، إلى تركيا زيارة اقتصادية بحتة، لا صلة لها بمساعي “الرباعية الدولية” لفرض تسوية جائرة، ولا بمحاولات دفع السودان إلى توقيع عقود إذعان تحت ضغط اللحظة.

فالزيارة ثمرة عمل تراكمي وجولات مكوكية استمرت لأكثر من عام، قادها المدير العام لمنظومة الصناعات الدفاعية، الفريق أول ميرغني إدريس، بهدف تحرير رأس المال الوطني من أسر سوق دبي، وإعادة توجيهه نحو بورصة تركيا، بما تحمله من فرص تصنيع وتمويل وشراكات طويلة الأمد.

وقبل أيام من زيارة البرهان، سبقتها خطوة لا تقل دلالة، تمثلت في وصول وفد حكومي رفيع إلى أنقرة، ضم والي البحر الأحمر، الفريق ركن مصطفى محمد نور، ومدير عام هيئة الموانئ البحرية، المهندس جيلاني محمد جيلاني، إلى جانب عدد من المسؤولين. ولم تكن أجندة الوفد سياسية، بل تنموية استراتيجية، شملت شراكات في الموانئ والتعدين والزراعة، والتشاور حول تنفيذ مشاريع بنى تحتية تعيد ربط السودان بسلاسل القيمة الإقليمية.

وعلى مسار مواز، يبقى التعاون العسكري واللوجستي والاستخباري بين البلدين معلوماً، وهو تعاون قديم ومتجدد، يجري وفق الأعراف الدبلوماسية، ويخضع للقوانين الدولية في مسائل الأمن المتبادل لا الاستقطاب، في منطقة تعج بصراعات النفوذ وتقاطعات المصالح.

لقد فسر بعضهم زيارة الرئيس البرهان إلى أنقرة باعتبارها حلقة في ضغوط دولية لفرض تسوية سياسية. غير أن القراءة الأعمق تكشف أنها أبعد من ذلك بكثير. فإلى جانب إدارة الحرب، يقود البرهان معركة أخرى لا تقل تعقيداً، هي معركة إعادة الإعمار وبناء اقتصاد ما بعد الحرب. وهي معركة تحسم بإعادة تموضع السودان داخل خريطة الاستثمار الدولية، وتنويع الشراكات، وكسر ارتهان القرار الاقتصادي.

تقاس قوة الدول بما تنجزه حين تضيق الخيارات. ومن هذا المنظور، تبدو العلاقة السودانية التركية اليوم محاولة واعية للانتقال من سياسة رد الفعل إلى سياسة بناء البدائل، ومن اقتصاد هش تحكمه الأزمات، إلى أفق تنموي يستعيد السيادة عبر الإنتاج والشراكة المتكافئة.

محبتي واحترامي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى