الصاوي يوسف
تهمنا الانتخابات الأمريكية لأن الولايات المتحدة دولة كبرى وتسيطر وتؤثر على الكثير من مجريات الأحداث في العالم، ولكن انتخاب هذا الرئيس أو ذاك لا يغير كثيرا من مواقفها وسياساتها تجاهنا، ولذا فإن الانتخابات لا تهمنا من هذه الناحية.
ما أراه أن الانتخابات الأمريكية تهمنا لأنها نموذج لنظام مستقر لتبادل السلطة. ورغم أنه ليس نظاماً مثالياً ولا عادلاً وأكاد اقول: ولا ديموقراطياً، إلا أنه نظام مستقر، ارتضاه الناس هناك كوسيلة مقبولة لتحديد من يقود البلاد.
والانتخابات بالطبع ليست فقط للرئيس، وإنما الأهم من ذلك، انتخاب نواب البرلمان (الكونقرس) بمجلسيه: مجلس الشيوخ الذي يمثل الولايات بالتساوي، والنواب الذي يمثل الدوائر الجغرافية حسب عدد السكان، وانتخاب حكام الولايات، وعددٍ من المواقع الأخرى مثل النائب العام لبعض الولايات ومجالس الولايات والعمد والمجالس البلدية وحتى مدراء الشرطة.
هذا النظام صار عرفاً راسخاً مقبولاً ومسلّما به لدى الجميع. فهو ليس فقط تنظيماً دستورياً وقانونياً، وإنما ممارسةٌ مستقرة يخضع لها الناس بداهة. رغم ما به من عيوب وما عليه من مآخذ. فمثلاً نعلم جميعا أن الانتخابات على مستوى البلاد كلها (للرئيس) ومستوى الولاية (للحاكم والسيناتور) وهي مساحة كبيرة وبها آلاف البلدات وملايين السكان، وحتى بعض الدوائر الجغرافية، يصعب تغطيتها وقيام الحملات الانتخابية فيها، إلا لمن يملك مالاً كثيرا وحزباً كبيرا، ولذا لا يترشح ولا يفوز إلا من ينتمي للطبقات المقتدرة مالياً، والقادرة على والراغبة في خدمة المصالح الراسمالية للأغنياء داعمي تلك الحملات. ورغم ذلك توصف هذه الانتخابات بأنها ديمقراطية، باعتبار أن للجميع الحق في الترشيح والانتخاب والتصويت على قدم المساواة، صوت واحد لكل فرد مهما كان وضعه المالي أو الاجتماعي.
الفكرة إذن من وراء النظام هي إعطاء صوت، نظرياً، للمواطن العادي، ليتحقق “حكم الشعب” رغم أن الواقع هو أن الحاكم دوماً هو عضو النخبة المالكة للثروة والنفوذ، ما يسمى ب”المجمع الصناعي العسكري”، ويظل الرئيس دوماً من مجموعة “البيض الأنقلوساكسون البروتستانت” أو ال (WASP) التي لم يشذ عنها الا ثلاثة أو أربعة فقط، خلال أكثر من ٢٣٠ عاماً و٤٧ رئيسا.
إذن العبرة ليست في مثالية النظام وأنه أفضل نظام لتمثيل كل السكان ومشاركتهم في السلطة وحكم الشعب، بل العبرة هي في الاستقرار، والقضاء على العنف والصراعات والانقلابات، وتحقيق الاستمرارية والديمومة لمؤسسات النظام، وليس للأفراد والأشخاص.
ونموذجاً لهذا الرضى بالنظام على علاته وعيوبه، هذه الانتخابات الأخيرة. فقد فاز ترمب بأكثر من ٧٤ مليون صوت، بينما خسرت هاريس ونالت حوالي ٧١ مليون صوت. وهذا يعني أن ٧١ مليون مواطن لا يريدون ترمب رئيسا لهم ولا يوافقون على سياساته، ويمكنهم ببساطة استخدام وسائل النضال السلمية والعصيان المدني، كالإضراب وإغلاق الطرق ووقف جميع جوانب الحياة كالخدمات العامة والانتاج وكل شي، كما يمكنهم الاعتصام أمام البيت الأبيض أو الكونقرس أو احتلال وول ستريت شارع المال والأعمال، ولن يستطيع الجيش والحرس الوطني ولا الشرطة مواجهة ٧١ مليون مواطن!! كما يمكنهم تشكيل حركات نضال مسلح لإنتزاع نصيبهم العادل من السلطة إذ كيف نقبل “تهميش” ٧١ مليون مواطن؟!
ولكنهم لا يفعلون أياً من ذلك. يعترف المهزوم بهزيمته، رغم أن خلفه ٧١ مليون مواطن يأتمرون بأمره في إحصاء دقيق محقق وموثق وليس مجرد إدعاءات. قارن ذلك بما يجري عندنا إذ يزعم بعض الناشطين ممن لا تملأ عضوية أحزابهم قاعة اجتماعات واحدة، أنهم يمثلون “الشعب”. الشعب كله وليس فقط نسبةً منه!
ماذا يفعل الخاسرون، رغم أنهم ٧١ مليون مواطن؟ يجلس قادة الحملة الانتخابية وقادة الحزب الخاسر لينظروا في أسباب الهزيمة، وينتظروا أربعة سنوات لمحاولة تصحيح الأخطاء وتجويد البرامج وإعادة التواصل مع القواعد. وأول المراجعات هو تقديم وجوه جديدة، ربما تكون أكثر مقدرة على إقناع الناخبين، فالمرشح الخاسر يخرج من العمل السياسي المباشر، ويترك الساحة للوجوه الجديدة، ويصبح داعماً ومستشاراً لهم. ومن تلك المراجعات تطوير البرامج الانتخابية لتلبي حاجات قطاعات أوسع من الناخبين، واستعادة الناخبين السابقين الذين خاب ظنهم وتخلوا عن ذلك الحزب او المرشح وصوتوا للجانب الآخر، وتصميم برامج جديدة تلبي حاجات قطاعات أهملوها في المرة السابقة. فقد ركّزت حملة هاريس، مثلاً، على حقوق المرأة خاصة الإجهاض، وعلى دعم إسرائيل واليهود، وحقوق الشواذ وغيرها من اهتمامات الليبراليين، بينما كان الناخب يهتم أكثر لاستعادة الوظائف من الصين، وربما الاهتمام بالأسرة الطبيعية من زوجين ذكر وأنثى، وتقليل الدعم للحروب الخارجية والدول الخارجية، بما فيها إسرائيل وأوكرانيا، التي ركز عليها ترمب.
نتعلم إذن من الانتخابات الأمريكية، ليس مثاليتها، ولا نزاهتها في تمثيل الشعب وتطبيق حكم الشعب فعلا بالتساوي بين اصوات المواطنين، فهي ليس مثالية، ولا تعطي المواطنين فرصاً متساوية. ولكن نتعلم منها الرضا بالنظام والاستقرار في عملية انتقال السلطة بين الافراد والأحزاب، دون اضطراب الدولة والمؤسسات والنظم. فالقوانين، وعلى رأسها الدستور، ثابتة وراسخة ومطبقة على علاتها، وتغييرها يتم بعملية بطيئة ومتدرجة وطويلة، وتخضع لمساومات كثيرة تراعي توجهات ومصالح قطاعات كثيرة من الناس والجهات، ولذا تشعر كأن انتخاب هذا الرئيس أو ذاك لم يغير شيئا في سياسة أمريكا. فحتى القضاء، وهو قضاء مسيس تماما، إذ أن قضاة المحكمة العليا يرشحهم الرئيس ويعتمدهم الكونقرس، حتى هذا القضاء لا يتغير بالفصل والتعيين، إذ لا يتغير الا بالموت، بالتالي تظل المحكمة العليا تنتظر سنوات طويلة، لحين وفاة احد الأعضاء، فيعين الرئيس الموجود حينئذ، عضواً جديداً قد يغير في الموازنة والميول قليلا، أو لا يغير.
الشاهد اننا بحاجة للاستقرار في النظم، ومؤسسات الدولة، وسيرها واستمراريتها وديمومتها. وهذا لا يكون الا بالرضا بالنظام الذي نقره ونرتضيه، والخضوع له رغم عيوبه. فهناك دول مستقرة لأن الحكم فيها وراثي، والشعوب راضية بذلك النظام. وهناك دول مضطربة رغم إدعائها الديموقراطية، وللاسف بلادنا على رأسها، ذلك أننا لا نرضى بالنظام، ديموقراطي أو غيره، ولا نخضع لقانون، ولا نسلّم لأغلبية، إذ تستطيع أي مجموعة مايكروسكوبية أن تدّعي أنها وحدها هي قوى الحرية والديموقراطية والمدنية، فتغلق الشوارع، وتوقف الخدمات والانتاج والحياة، وتتظاهر وتعتصم، مستخدمة بضع آلاف من العطالة والصعاليك، ثم تستولي على الحكم، بحجة أنها هي “الشعب”!!
ولن يستقر لها حكم بالطبع، وتستمر دائرة عدم الاستقرار الجهنمية، ثم يتساءل الناس لماذا لا تنهض بلادنا مثل ماليزيا وكوريا وسنغافورة!
