رأي

الاتحاد الأفريقي بين ديمقراطية الوصايا والمصالح المهدرة … وعقلية الإضعاف والسيطرة على موارد القارة

بقلم: عبدالعزيز يعقوب 

تظل القارة الإفريقية، بما تضم من 54 دولة، وبعد أكثر من ستة عقود على الاستقلال، مسرحًا لتباين حاد في أنماط الحكم،
اولاً دول تمثل نموذج الديمقراطية المستقرة والشفافة.
ثانيا دول وصلت السلطة فيها عبر الانقلابات العسكرية وأقامت انتخابات شكلية تمنحها غطاءً زائفًا للشرعية، بينما تظل تحت قبضة الجنرالات.
ثالثا أنظمة هجينة أو سلطوية تحكمها أحزاب مهيمنة أو انتخابات شكلية بعيدة عن روح الديمقراطية.
هذا التنوع يكشف عمق التفاوت في مستويات الحكم والمؤسسات، ويعكس إلى أي مدى تستطيع الدولة الإفريقية حماية الحقوق وتداول السلطة وتحقيق مصالح مواطنيها، بين نموذج للبناء المؤسسي الراسخ، وصورة أخرى للانكسار الهيكلي الذي تقوده النخب السلطوية والعسكر.

الدول التي يمكن اعتبارها استثناءً مشرفًا في سجل الديمقراطية الإفريقية لا تتجاوز ثمانية: غانا، جنوب إفريقيا، بوتسوانا، موريشيوس، الرأس الأخضر، بنين، ناميبيا، والسنغال. في هذه الدول يسود التداول السلمي للسلطة، وتتمتع المؤسسات بالاستقلال، ويحظى المواطن بحقوقه السياسية والمدنية بصورة ملموسة، فيما يمارس الإعلام دوره الرقابي بحرية نسبية، وتبقى السلطة القضائية عصيّة على التدخلات. ورغم التحديات التي تفرضها البيئة الإفريقية، فإن هذه التجارب رسخت تقاليد ديمقراطية قلّ نظيرها في القارة.

وعلى النقيض، نجد مجموعة كبيرة من الدول التي ما تزال أسيرة الانقلابات العسكرية، وإن تزيّنت بانتخابات شكلية وأحزاب ورقية. في هذه القائمة تطل أسماء مصر، السودان، جنوب السودان، الجزائر، تشاد، مالي، النيجر، غينيا، الكاميرون، بوركينا فاسو، توغو، ليبيا، غينيا الاستوائية، الكونغو برازافيل، أوغندا، إثيوبيا، الصومال، زيمبابوي، وموريتانيا. هنا يتجلى الحكم العسكري في صور متعددة، حيث تبقى المؤسسات أدوات للسيطرة لا للتمثيل، وتُغلب هواجس الأمن على الحريات، ويتحول تداول السلطة إلى مسرحية مكرورة بلا نهاية.

أما بقية الدول، فتتوزع بين أنظمة هجينة أو سلطوية ذات قشرة ديمقراطية هشة. من بينها المغرب، رواندا، أنغولا، موزمبيق، تونس، جيبوتي، الغابون، إسواتيني، ليسوتو، مدغشقر، زامبيا، غينيا بيساو، سيراليون، ليبيريا، كينيا، تنزانيا، إريتريا، مالاوي، غامبيا، بوروندي، والكونغو الديمقراطية جزئيًا. وفي قلب القارة، تبرز جمهورية إفريقيا الوسطى وساو تومي وبرينسيبي والغابون وغينيا الاستوائية كنماذج لحكم عسكري أو شبه عسكري تغذيه مصالح النخب وتحدّ من التداول الفعلي للسلطة. أما المغرب فقد فرض سيطرته الكاملة على أقاليمه بما فيها الصحراء، التي وإن ظل وضعها القانوني محل نزاع، فإنها تُدار فعليًا تحت السيادة المغربية، في تحوّل إقليمي عميق يعيد رسم خرائط النفوذ القاري.

تتضاعف هشاشة الأنظمة الإفريقية مع استمرار الصراعات المسلحة في أكثر من نصف دول القارة، من ليبيا والسودان وجنوب السودان إلى مالي وبوركينا فاسو والنيجر والصومال والكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وغيرها. هذه النزاعات تحافظ على حالة عدم الاستقرار، وتزيد من ارتهان الدول إلى التمويل الخارجي، أحيانًا على حساب السيادة الوطنية. وهنا يصبح مطلب الشعوب في الأمن والعدالة والتنمية حلمًا بعيد المنال، يذوب في حسابات السلطة ومصالح الداعمين الدوليين.

في هذا الإطار، جاء قرار تجميد عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي كجرس إنذار أخلاقي وسياسي: هل الاتحاد الأفريقي حريص فعلًا على الديمقراطية في السودان؟ وهل سيُعامل الأنظمة العسكرية الأخرى بنفس المعيار؟ أم أن هناك خططًا مدروسة للتحول الديمقراطي الانتقالي؟ أم أن قوى خارجية تحرك المشهد من وراء الستار، لتوظف قادة الاتحاد في خدمة أجنداتها؟

السودان ليس دولة عادية، بل هو رمز تاريخي ومؤسسة دعم رئيسية لحركات التحرر الإفريقية. احتضن نضالات جنوب إفريقيا، وأسهم في استقلال دول عدة، وكان نموذجًا للدعم غير المشروط لمسار الحرية في القارة. إن تجميد عضويته سابقة خطيرة لم تعرفها منظمة الوحدة الإفريقية ولا الاتحاد الأفريقي من قبل تجاه دولة بهذا الثقل الرمزي والتاريخي. وهي سابقة قد تفتح أبواب الانقسام داخل القارة، وتدفع بعض الدول إلى تقليص التزامها بالمنظمات القارية إلى حد التمثيل الشكلي، تاركة المجال للابتزاز ونهب الموارد.

ويطرح السؤال نفسه الان هل رفض بعض الدول الإفريقية عودة السودان إلى الاتحاد الأفريقي قائم على ثوابت أخلاقية حقًا، في قارة يغلب عليها الحكم العسكري والأنظمة الشمولية، أم أنه جزء من عقلية إضعاف السودان وتحويله إلى لقمة سائغة للمصالح الخارجية؟ إن أكثر من نصف القارة يعيش أوضاعًا شبيهة بما يعيشه السودان، من نزاعات مسلحة إلى سلطويات مقنّعة، مما يجعل الاستهداف الانتقائي للسودان أقرب إلى كونه صفقة سياسية مدفوعة بأموال النفوذ الخارجي أكثر من كونه حرصًا على مبادئ العدالة والديمقراطية.

هكذا تبدو القارة الإفريقية في مواجهة مأزق أخلاقي وسياسي صارخ: إما أن تُطبق المبادئ على الجميع دون استثناء، أو تتحول مؤسساتها إلى أدوات لتصفية الحسابات. الإفراط في إرضاء القوى الممولة يفتح الباب لتفكك داخلي وصراعات جديدة، فيما يبقى المطلب الجوهري للشعوب مؤجلًا: حقها في تقرير مصيرها، لا وفق صفقات خارجية، بل وفق إرادتها الحرة ومصالحها الوطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى