رأي

الأُبيض عروس الرمال .. فاطمة السمحة

إبراهيم احمد الحسن

(1)

كانت الأمطار في الخارج لا تتوقف ، ويصلنا شئ من زيفة وبَرِد جراء تساقط البَرَدْ ، وكرات الثلج الصغيرة لها دوي وهي ترتطم بخشب النوافذ القديمة، لم يك هذا مشهد في مدينة الضباب لندن ولا في واحدة من الدول الإسكندنافية وإنما من السودان ، من مدينة الأبيض ، عروس الرمال قلبه النابض وشريان حياته.

(2)

استحقت الأبيض-حفظها الله ورعاها – لقب العروس  ولم تك عروساً للرمال فحسب بل كانت عروساً في كل شئ ، في ذاتها وصفاتها ، عروس في الخفر والخلقة والاخلاق والخير  في الحُسن والنضار والبهاء في الألق والتأنق والنقاء ، في عطرها الآخاذ كانت عروس وفي حضورها الطاغي كانت عروس . والحياة في الأبيض كان عرس لا تتوقف مراسمه ، ويمتد عرس الأبيض في علاقات اجتماعية واسعة وراسخة يعلو فيها الانتماء للمكان علي اي انتماء آخر .

تتعدد السحنات وتتنوع ويبقى الشئ الوحيد الذي لا يتعدد هو هذا الحب الجارف الذي يكنه لها كل من عرف الأبيض وعاش فيها يتنقل هواه حيث شاء من الهوى ويبقى الحب دائما  للأُبيض عروس الرمال .

(3)

وهذا هو حالنا .. تنقلنا حيث شئنا او لم نشاء من جغرافية الكون ، تتقاذفنا المطارات والمواني البعيدة والمهاجر ومواقف الحافلات السفرية العابرة للمدن وليس في (حقائبنا شئ سوى الوطن الصغير ) عروس الرمال الأُبيض .

(4)

أثناء الدراسات الجامعية كنا نثابر ونجتهد دافعنا لتحقيق النجاح والتفوق هو حلم العودة في الاجازة الي الوطن الصغير عروس الرمال نمتطي قطار محمد المكي إبراهيم ونردد خلفه شدو عميق عن قطاره الذي اسماه (قطار الغرب):( كل السودان يقاسى يا شعراء الشعب / فدعوني أُسمعكم شجوى / شَجْوى أدعوه قطار الغرب ) ، ليتني استطيع ان اشرح لكم كيف كانت تلهمنا المدينة الأُبيض النجاح ، لا لشئ إلا لان رحلة النجاح نهايتها عودة لحضن الأُم (عروس الرمال ) في إجازة نهاية العام الدراسي .

(5)

وعندما نحزم حقائبنا إلى المهاجر  نسافر عبر ضوضاء إجراءات السفر وأزيز الطائرات تحملنا الي مدن بعيدة (تنوم وتصحى علي مخدات الطرب ) فلا نجد الطرب الا حين نعود (ونسير غزال فوق القويز  / كلام غزل معسول لذيذ ) لا نجده إلا حين تسيل دموع اللقاء او دموع الفراق ( دموع عتاب من زولاً عزيز / سالت بحر شالت القليب في كردفان ) ..

(6)

ونعود .. إلى المدينة العروس في مواسم الأفراح الوردية وعند الأتراح ودموع الفراق ، ونعود في أحايين كثيرة (كدة ساكت بس ) بلا مناسبة يدفعنا شوق وحنين الي مكان ما في المدينة العروسة نقف عند محرابه لحظات قلائل ثم نعود .

هل تصدقونني إذا قلت لكم انني ذات يوم انتزعت نفسي من براثن العمل وسافرت بلا ميعاد ، بلا سبب إلي عروس الرمال لا لشئ إلا الوقوف عند محراب مزيرة في مدرسة الأبيض الاهلية الثانوية العامة ، أكرع من مائها السلسبيل شربة ماء قبل ان أغشى قبر أمي في المقابر القريبة ، اقرأ الفاتحة علي روحها ، وأدعو لها ثم اعود أدراجي حيث كنت ( تالا المدن ../ المصّت دمِّك / ودسَّت فوحك / قسّت همِّك /وقصَّت موحك ..) ، وأغرق في دوامة العمل في المدن التي لا ترحم .

(7)

كانت الأمطار في الخارج لا تتوقف ، ويصلنا شئ من زيفة وبَرِد جراء تساقط البَرَدْ ، وكرات الثلج الصغيرة لها دوي وهي ترتطم بخشب النوافذ القديمة ، وكنا نتحلق حول مجلس (حياة ) شقيقتنا الكبرى علي قبرها الف رحمة ونور نَقُصُّ عَلَيْنا أَحْسَنَ الْقَصَصِ وتحكي اجمل الحكايات التي سمعتها عن جدتنا فاطمة بت الهدي حكايا عن فاطمة السمحة والغول وإختطافه لها عبر تأمر بنيات الفريق عليها تنهشهن نار الغيرة ، كانت (حياة ) تحكي وتحكي ، وتحكي عن محاولات الضبع الساذجة للإيقاع بالحملان الصغيرة وهو يغنى لها بصوت أجش ، وقبل ان ينال منا النعاس ، ولأن (حياة ) هي كل الخير والطيبة كانت تجعل الخير ينتصر عند نهاية الحكايا ، كانت تجعل فاطمة السمحة تعود والغول يقتله الشجعان  ، وبنيات الفريق يتركن افعال السؤ  والتأمر ، كانت تجعل الضبع يفشل في استدراج الحملان الصغيرة ، عندها نطمئن ان عالمنا الصغير من حولنا قد عمه السلام وغشته الطمأنينة فننام غريري الأعين حمداً لله فقد لاقى الغول حتفه ومصيره المحتوم ، ولان الضبع فشل في افتراس الحملان الصغيرة .

(8)

كبرنا وخبرنا الحياة  تعلمنا ان ليس كل من في الوجود حملان صغيرة وحمائم وعصافير رقيقة وانما هناك مساحات واسعة ترتع فيها الذئاب والضباع والذباب وبرك آسنة تسبح فيها الحيتان المفترسة والتماسيح وغابات بلا حتى قانون الغاب يصول فيه الغول ويجول وجدنا الغول في كل مكان يكشر عن أنيابه ويفترس بلا رحمة ، بلا هوادة او آدنى شفقة ، ووجدنا ضباع عدة في اماكن كثيرة وأزمان ممتدة، وقد وصفتهم ذات يوم لصديق في رسالة كتبت له فيها ( علمتنا الايام ) .

(9)

( يا صديقي .. علمتنا الايام التي تسرع خفافاً توقع اللامتوقع والإستعداد له ب زاد يكفي ويزيد ، فراق الاحبة ، نوازل الزمان .. ثمن النجاح وعتراته .. بؤس الظن .. كآبة  تدابير الصديق و سؤ منقلب العدو .. قسوة الايام .. ضنك اذى القريب .. وسطوة عدم رحمة الغريب .. ظلم ذو القربى و بنو جلدتنا ..و عسف من أتي من وراء البحار و جذر الواق .. وقفت لها كالسيف وحدي طوال سنين عددا ..لم تلن لي عريكة و لا .. ولا لان لي جناب ولا وهن مني عزم .. وما فرطت في واجب .. عملت بضمير يقظ و بصر و بصيرة و فهم وثاب .. و قلب مفتوح علي مصراعيه يستوعب الناس و الأحداث و المواقف والأشياء وعقل مفتوح يري ويستشف و ينير طريقي .. ما لجأت الي سريري يوماً -والله علي ما أقول شهيد – احتال علي النوم و استدعيه لهمٍ في امر دنيا و متاع زوال .. انام – و احمد الله كثيراً علي ذلك – أنام قرير العين عن شواردها .. أخذت الأجر فحاسبت نفسي علي العمل .. رضيتُ بالقليل ف رزقنى الله بالكثير .. فما جعلني القليل مغلول يد و اغراني الكثير ببسطه رزقاً وافياً للجار و الصديق و ال ( بشهق ضايق ) جعلت لي آلاف الأصدقاء من (الناس) كافة خواجات و عرب و عجم ،، اهل واقرباء و جيران و جيران و جيران و جيران ( وحيثما سكنتُ فثمة جيران ) وندماء و زملاء و زملان الشقاء ( الجاي من الجريف والجاي من الجبل ) والجاي من الأبيض عروس الرمال .

(10)

ولم أنسى ان اقول له من لم يتعظ ويتعلم من الايام فكفى له بالموت واعظ . وكم غشى الموت من غول طغى وتجبر وافترس ، ومضى إلى زوال .

ويا الأبيض .. يا عروس الرمال ..  (سيصحى الشجر اليابس / أخضر / سيضحى الأخضر /زائد وأنضر / وسيرجع طيراً غَصِب إتهجر / ..وشوش/ .. عشعش / وعمَّر روحك ) .

يا أبيض يا عروس السماح والسماحة والخير والجمال ( رنّة فرحك .. صنّة ترحك / وين ما أقبِّل ياني بروحك / أي مرتكب الصاح ونصوحك ) ..

يا عروس الرمال وين ما أقبِّل ياني بروحك.. وين ما أقبِّل ياني بروحك.. وين ما أقبِّل ياني بروحك..وين ما أقبِّل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى