رأي

الأسلحة الصّامتة.. وأدوات الحرب القائمة

 

وسام الحجار

لا تخفى أهمية الأدوار التي يلعبها الإعلام في تشكيل الرأي العام، ما استلزم حكومات الدول الكبرى (وحتى الدول الصغيرة) أن تستحدث مراكز ولجاناً خاصة لتحسين صورتها أمام الرأي العام الداخلي والخارجي. كما أمست ظاهرة التضليل الإعلامي منتشرة بشكل يدفعنا إلى التساؤل حول شروط التضليل والبحث عن دواعي تحول بعض وسائل الإعلام إلى آلة مُسَخرة لتمرير أخبار معينة تهدف إلى إخفاء الوقائع عن الجماهير المتلقية للرسالة الإعلامية، وخاصة في ظرفنا الزمني الراهن المطبوع بالصراع بكافة أشكاله وبالحروب التي أغرقت العالم في بوتقة الحقد والكراهية.

ففي العقد الأول من القرن الحالي وبعد تفجيرات 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية قامت الخارجية الأمريكية بإعداد “خطة لتحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي”، وأشرفت عليها خبيرة الدعاية الأمريكية “شارلوت بيرز”، بيد أن شارلوت قدمت استقالتها رسمياً في أوائل شهر فبراير/شباط 2003 من لجنة “تحسين صورة أمريكا”، وقالت لصحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في السابع من مارس/آذار 2003 بأن محاولتها هي للدفاع عن سياسات “أمريكية” غير مقبولة في العالم العربي، وقد “كانت بمثابة إدخال الفيل في علبة صغيرة”، لأن صورة أمريكا لدى شعوب العالم أقبح كثيراً مما يتخيله الأمريكيون”..!!

ومع دخول المخطط الأمريكي لاحتلال أفغانستان والعراق مرحلة التنفيذ، جرت محاولة أخرى لتنشيط هذه الإدارة بهدف نشر البرنامج الدعائي الذي تبنته الإدارة الأمريكية لتلميع صورة الاحتلال ومنع تفشي الكراهية ضد الأمريكيين في المنطقة العربية، ولكن تم وضع برامج أخرى عديدة عقب احتلال العراق تهدف لإقناع العرب والمسلمين بأن الهدف ليس الاحتلال ونهب ثروات العراق ولكن نشر الديمقراطية، لأن تعاظم الكراهية للأمريكان سيترتب عليه هجمات على غرار 11 سبتمبر، فالهدف هو “حمل الناس على اعتقاد أن الديمقراطية قادمة بالفعل”.

وسبق هذه الحملة تخصيص إدارة وميزانية أمريكية للإعلام وللترويج لمفاهيم وسياسات واشنطن عبر سلسلة من المجلات والصحف المدعومة أمريكياً مثل مجلة “هاي”، وإذاعة “سوا”، وإنشاء محطات فضائية مثل “الحرة”، بجانب دعم صحف ومجلات أخرى بدعم مالي مباشر.

ويبدو أن الحملة فشلت للمرة الثانية بدليل أن خبيرة الدعاية الأمريكية “شارلوت بيرز” قدمت استقالتها للمرة الثانية من منصبها -بعد أن عدلت عن الأولى- في لجنة “تحسين صورة أمريكا” في مايو/ أيار 2004، لأنها لم تجد ما تدافع به عن بلادها إزاء الاتهامات.

لقد تحولت فضاءاتنا الاجتماعية في كل مكان إلى مختبرات لتجريب الأكاذيب من طرف الآلات الإعلامية، مما حول الوقائع إلى مجرد أوهام تعشش في رؤوس المتلقين وتؤسس لإنتاج قوالب اجتماعية خطيرة.

وتم في هذه المرحلة ابتداع قانون “إماتة الاحتمالات الحية وإحياء الاحتمالات الميتة”، ويقوم هذا القانون على إثارة الجماهير إعلامياً ضد أمر موهوم لا وجود له، أو تضخيم أحد الأخطار المتوقعة قليلة الأثر، وفي المقابل يتم إماتة الخطر الأول والأعظم بعدم الإشارة إليه بالمرة، أو التقليل من خطره. وقد عانى الناس وما زالوا من هذا القانون القاتل، إذ به يتوجه بالناس لقتال السراب أو العدو الأقل خطراً، ويتركون عدوهم الأكبر يعيث في الأرض الفساد.

ويكشف العالم والمفكر الأمريكي ناعوم تشومسكي في مقال له بعنوان: “استراتيجيات التحكّم والتوجيه العشر”، التي تعتمدها دوائر النفوذ في العالم للتلاعب بجموع النّاس وتوجيه سلوكهم والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم في مختلف بلدان العالم.

وكان تشومسكي استند في مقاله إلى “وثيقة سريّة” يعود تاريخها إلى عام 1979، وتمّ العثور عليها سنة 1986 عن طريق الصدفة، وتحمل عنواناً مثيراً “الأسلحة الصّامتة لخوض حرب هادئة”، وهي عبارة عن كتيّب أو دليل للتحكّم في البشر وتدجين المجتمعات والسيطرة على المقدّرات.

فالأسلحة الصامتة تطلق وتحدد المواقف بدلاً من إطلاق الرصاص، وتقوم بمعالجة المعلومات بدلاً من التفاعلات الكيميائية، وتستخدم الحاسوب بدلاً من البندقية، وتخضع للأوامر المصرفية بدلاً من العسكرية. إنها لا تسبب أي أذى جسمي أو عقلي ظاهر، كما أنها لا تتدخل –ظاهرياً– بحياة الفرد اليومية؛ لذلك لن يدرك الشعب حقيقة هذه الأسلحة ولن يصدق إمكانية إخضاعه لها.

نعود إلى تشومسكي وإلى مقاله الذي يستعرض فيه الأدوات التي تعتمدها دوائر النفوذ في العالم للتلاعب بجموع النّاس وتوجيه سلوكهم والسيطرة على أفعالهم وتفكيرهم، وهي على الشكل التالي:

1- استراتيجية الإلهاء والتسلية: والتي يعمد من خلالها إلى تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه، في مقابل شحّ المعلومات وندرتها.

2- استراتيجية افتعال الأزمات والمشاكل وتقديم الحلول: حيث يتم خلق مشكلة، وافتعال “وضع مّا”، الغاية منها انتزاع بعض ردود الفعل من الجمهور، بحيث يندفع الجمهور طالباً لحلّ يرضيه. كالسّماح بانتشار العنف في بعض المناطق أو تنظيم هجمات دموية، حتى تصبح قوانين الأمن العام مطلوبة ولو على حساب الحرية، وقبولها على أنّها شرّ لا بدّ منه.

3- استراتيجية التدرّج: لضمان قبول ما لا يمكن قبوله يكفي أن يتمّ تطبيقه تدريجيّاً على مدى 10 سنوات. فالعديد من التغييرات التي كانت ستتسبّب في ثورة إذا ما طبقت بشكل وحشيّ، يتمّ تمريرها تدريجيّاً وعلى مراحل.

4- استراتيجية التأجيل: هناك طريقة أخرى لتمرير قرار لا يحظى بشعبية هو تقديمه باعتباره “قراراً مؤلماً ولكنّه ضروريّ”، والسّعي إلى الحصول على موافقة الجمهور لتطبيق هذا القرار في المستقبل. وأخيراً، فإنّ الوقت سيسمح ليعتاد الجمهور فكرة التغيير ويقبل الأمر طائعاً عندما يحين الوقت.

5- مخاطبة الجمهور على أنّهم قصّر أو أطفال في سنّ ما قبل البلوغ: فإذا خاطبت شخصاً كما لو كان في سنّ 12 عند ذلك ستوحي إليه أنّه كذلك، وهناك احتمال أن تكون إجابته أو ردّ فعله العفوي كشخص في سنّ 12.

6- مخاطبة العاطفة بدل العقل: التوجّه إلى العواطف هو الأسلوب الكلاسيكي لتجاوز التحليل العقلاني، وبالتالي قتل ملكة النقد، وتعطيل ملكة التفكير.

7- إغراق الجمهور في الجهل والغباء: لابدّ من إبقاء الجمهور غير قادر على فهم التقنيات والأساليب المستعملة من أجل السيطرة عليه واستعباده.

8- تشجيع الجمهور على استحسان الرداءة: تشجيع العامّة على أن تنظر بعين الرضا إلى كونها غبيّة ومبتذلة وغير متعلّمة.

9- تحويل مشاعر التمرّد إلى إحساس بالذّنب: دفع كلّ فرد في المجتمع إلى الاعتقاد بأنّه هو المسؤول الوحيد عن تعاسته، وذلك بسبب محدوديّة ذكائه وضعف قدرته أو جهوده. وهكذا، بدلاً من أن يثور على النظام الاقتصادي يحطّ الفرد من ذاته ويغرق نفسه في الشّعور بالذنب، ممّا يخلق لديه حالة اكتئاب تؤثر سلباً على النشاط؛ ودون نشاط أو فاعليّة لا تتحققّ الثورة.

10- معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذواتهم: لقد تمكّن “النظام” من معرفة الأفراد أكثر من معرفتهم لذواتهم. وهذا يعني أنه في معظم الحالات، يسيطر “النظام” على الأشخاص ويتحكّم فيهم أكثر من سيطرتهم على أنفسهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى